ميّزت روسيا مواقفها منذ بداية الثورات العربية. فهي لم تسقط نظرية «المؤامرة» من حساباتها، واعتقدت أن الثورات لم تنطلق من تلقاء نفسها، بل كان هناك تدخل خارجي أشعل فتيل هذه الثورات. هذا التدخل جعل روسيا تخشى حدوث أمر مماثل على أراضيها، وفي الفضاء السوفياتي السابق، وخصوصاً منطقة آسيا الوسطى. فهل هذا ممكن؟
نظرية المؤامرة : تعني أن هناك أيدٍ خفية تعمل من وراء الكواليس وتتحكم في أهم القرارات التي من شأنها أن تغير مسيرة العالم ، الحكومة الخفية المكونة من الصهيونية العالمية وحركة البنائين الأحرار أو الماسونية !!
هناك من يؤمن بهذه المؤامرة إيماناً كاملاً ، وهناك من يكذب بها تكذيباً كاملاً أيضاً هناك من يربط أتفه الأشياء وأصغرها بـ ( المؤامرة ) ، وهناك من ينفي صفة التآمر عن بعض أكبر الأحداث التي يبدو التآمر فيها واضحاً وضوح الشمس ...
مما لا يشك فيه عاقل أن المؤامرة موجودة ، وهي في عمقها مؤامرة عقائدية بحتة وإن كانت تتخذ أشكالاً سياسية واقتصادية متنوعة ... لكن الصعب هو أن نستطيع قراءة الأوضاع والأحداث الدائرة من حولنا ، وأن نجيد تصنيفها إما في خانة ( التآمر ) أو في خانة ( العفوية ) أو في خانة ( القانون الطبيعي ) ...
تنتشر كثير من الوثائق والشواهد الغريبة التي تثبت وجود تلك النظرية إما تصريحاً أو تلميحاً عن طريق ( الرمز ) ، والبطاقات المعروضة في هذا الموضوع تعتبر شواهد مهمة ...
خاصة في موضوع أحداث الـ ( 11 سبتمبر ) والتي أعتبرها دون شك جزءً من المؤامرة ، فليس الإسلاميون هم من قاموا بتلك الهجمات بنية الجهاد ضد الكفار ، بل هي أمريكا نفسها من خططت للعملية ونفذتها .. وذلك لتبرر لنفسها حرباً صليبية جديدة ضد الإسلام ، وقد كانت !!
وسياسة ( صناعة العدو ) سياسة معروفة وممكنة التنفيذ ، وأذكر أنني سمعت بأذني يوم 11 سبتمبر 2001 تعليقات عفوية من أشخاص بسطاء تؤكد على أن ( اليهود ) هم من فعلوا ذلك لتشويه صورة الإسلام وإيجاد السبب لمحاربته وتقتيل أهله ...
والآن نعيش في أيامنا هذه لغزاً جديداً هو أصعب بكثير من لغز الـ ( 11 سبتمبر ) ، وذلك اللغز هو الثورات العربية التي ابتدأت ببداية هذا العام 2011 ومازالت مستمرة إلى الآن بكل ما حملته من مفاسد محققة ومصالح موهومة لم تتحقق بعد ...
لكن ... هل يُعقل أن تكون هذه الثورات العربية جزءً من ( نظرية المؤامرة ) ؟؟
إثبات ذلك صعب جداً ، بعكس أحداث 11 سبتمبر التي كان سهلاً ربطها بالمؤامرة ، أما هذه الثورات فهي تبدو مختلفة تماماً .. بحيث أن ما نراه أمامنا ( بالعين المجردة ) هو شعوب ضاقت ذرعاً بالظلم والاستبداد والإهانة ، فانفجرت في وجه أنظمتها ضمن إطار قانون طبيعي هو ( الضغط يولد الانفجار ) ... ومن الصعوبة بمكان أن يقول قائل بأن كل تلك الحشود المتظاهرة في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والمغرب وسوريا وإيران قد تم تحريكها من طرف ( حكومة الظل ) في مؤامرة مدروسة تهدف لتحقيق أهداف صهيونية نعرفها أو لا نعرفها ...
نعم ... من الصعب أن نجزم بأن هذه الثورات هي مؤامرة أو جزء من مؤامرة وذلك لعدم توفر الأدلة الكافية لذلك ... لكنني مع ذلك سأجازف بالقول بأن احتمال التآمر في هذه الثورات هو ( احتمال وارد ) ، قد يصح وقد لا يصح !!! باعتبار أن ما يتعلق بالنظرية يظل دائماً أمراً محتملاً يقبل الصواب أو الخطأ ، ولا يقبل الجزم والقطع بحال من الأحوال ...
.
لو فكرنا وتساءلنا ، كيف يمكن أن تكون مؤامرة ؟ ومن سيدفع الشعوب للخروج على حكامها بهذا الإصرار العنيف الذي أودى حتى الآن بطاغيتين من أعتى الطغاة ؟؟ كيف يمكن لحكومة مهما كانت محكمة أن تقوم وبشكل مخفي غير معلن بحشد وتعبئة كل هذه الجماهير بإحدى تقنيات ( التحكم عن بعد ) ؟؟
وما هي أهدافها من ذلك أصلاً ؟؟
بالنظر إلى البطاقات التي يعرضها الموضوع ، فإن بطاقة ( Revolution ) تحمل نفس الصورة التي تحملها بطاقة ( Dictatorship ) غير أنها محروقة ومدمّرة .. بمعنى ، أن حكومة الظل لا يمكنها أن تلعب بطاقة ( Revolution ) إلا بعد أن تلعب أولاً بطاقة ( Dictatorship ) ...
التفكير في هذا الاتجاه يجعل إثبات نظرية التآمر في الثورات الحديثة أمراً قابلاً للاحتمال ...
وتفسير ذلك هو كالآتي ...
أن يكون الحكام عملاء وفاسدين ، وهذا ما تصرخ به كثير من الشعوب الثائرة كنوع من التعيير ، فالتونسيون يعيّرون بن علي بأنه كان عميلاً للموساد الإسرائيلي ، والمصريون يعيّرون مبارك بأنه عميل إسرائيلي حقير ... فهلاّ تساءلنا قليلاً كيف يمكن للحاكم أن يكون عميلاً ؟؟
الحكام العرب الحاليون هم ليسوا ( ولاة أمور ) للمسلمين كما يتوهم البعض ، بل هم في الواقع بيادق تنفذ المخططات الأمريكية والصهيونية الرامية لتحقيق ( النظام العالمي الجديد ) أو ( النظام العلماني الجديد ) كما تقول الترجمة الحرفية للعبارة المكتوبة على الدولار الأمريكي ...
فهم صناعة أمريكية صهيونية ، وعملاء أمريكيون صهاينة ، ويعملون ضمن إطار مخططات أمريكية صهيونية ، ويحكمون شعوبهم بأنظمة علمانية إلحادية ، والحدود التي تفصل بين دولهم هي حدود قومية ، وتلك القومية العربية هي الأساس الذي تقوم عليه كل الدول العربية الحالية التي ترسم خريطة العالم العربي بشكلها الحالي ... فالحكام الحاليون والمخلوعون كلهم جزء من المخطط ، ويحكمون شعوبهم بما يقتضيه ذلك المخطط ( العلماني ) القذر ...
أن يكونوا كذلك ، فهذا يعني بشكل بديهي أنهم أصلاً من ( صناعتهم ) ، فهم الذين صنعوا الحكام واختاروهم ونصّبوهم على رؤوس الدول رؤساء وملوكاً ... وهنا يتدخل دور بطاقة ( Dictatorship ) ...
أولاً [ صناعة الدكتاتور ] ... أن يقوموا هم بصناعة الدكتاتور وتوجيهه وتحديد سياسته مع شعبه ، والسيطرة أيضاً على وسائل الإعلام ( والإعلام هو الذي يصنع عقليات الشعوب ) .. وعلى مناهج التعليم ( وهي تصنع العقول أيضاً ) .. وعلى السياسة المالية والاقتصادية ( إفقار الشعب وشغله بالخبز لن يجعله يفكر ويتأمل ) .. وعلى التيارات الفكرية والإديولوجية ( نشر الفتن والجدالات العقيمة وتجفيف المنابع وتلبيس الحق بالباطل ) ..
وأخيراً ، بناء سد منيع بين الحاكم والمحكوم ، وتأليب الشعوب على الحكام وتحريضهم عليهم ، وجعل العلاقة بين الحاكم والشعب علاقة توتر وانفعال ، فالحاكم من جهته يزداد في ممارسة الظلم والطغيان والدكتاتورية ، والشعب يزداد انسحاقاً وكرهاً للحاكم ورغبة في الثورة عليه ...
ومن الغريب في الأمر ما أخبرني به أحد أصدقائي قبل مدة ، من أن ما يحدث الآن من ثورات هو مدوّن قديماً في كتاب ( بروتوكولات حكماء صهيون ) ... فمن تلك البروتوكولات هدم الثقة وإفساد العلاقة بين الحكام وشعوبهم ، وتحريضهم على الثورة عليهم وإسقاطهم ، وبهذا ينعدم الأمن والاستقرار وتكثر الفتن بشتى أنواعها ... وهو تحديداً ما يريدونه ...
.
صناعة واقع كهذا ، ولا ينكر أحد أنه واقع ، وأنه مصنوع أيضاً !! تهيئ مناخاً مناسباً تماماً للعب بطاقة ( Revolution ) ...
الثورة ، خروج المحكوم المسحوق على الحاكم الطاغية الظالم ( الذي تم صنعه وتسليطه على الشعب مسبقاً ) ، والإصرار على إسقاط النظام بكافة رموزه من أجل تحقيق العدالة والكرامة والحرية والرخاء ... فينساق الشعب وراء أحلامه وأوهامه في الديموقراطية والمساواة والحرية ، ويستخدم الحاكم كل ما لديه من أساليب القوة والقمع والاضطهاد ..
فتسيل الدماء وتتعطل المصالح وتحصل الخسائر الجسيمة ، ليسقط النظام أخيراً وينتصر الشعب ، ويطير فرحاً وزهواً بإنجازه العظيم الذي لم يسبقه إليه أحد ... ويصمّ آذانه عن كل ما يتناول إنجازه هذا بالتشكيك أو التسفيه أو حتى التنبيه والتصحيح ..
ويتحقق حلم الديموقراطية أخيراً ويحكم الشعب نفسه بنفسه ، ويتم تأسيس حكومة جديدة عبر انتخابات حرة ونزيهة ... ثم تبدأ حلقة جديدة من مسلسل التاريخ ، وتتدخل هنا القوى العالمية لضمان مصالحها ،فتحصل المفاوضات ويُتناقش حول المعاهدات والمواقف ... وتُكشف أهداف جديدة ويظل بعضها الآخر طي الكتمان ...
وتحصل انشقاقات في جسم الثورة الذي كان متماسكاً أيام المظاهرات ، وتبدأ حروب باردة جديدة ، ويأتي حاكم جديد بقضاياه ومشاكله ... ويتحول ذلك الحاكم إلى دكتاتور جديد بعد سنوات من تسلمه الحكم ... ثم لا ندري أي أحداث يمكنها أن تقلب مسار التاريخ حينئذ ....
هذا السيناريو الذي يتناول موضوع الثورات العربية من وجهة نظر ( المؤامرة ) يظل غير مؤكد ، ولكنه محتمل...
فاستغلال ( قانون طبيعي ) لصناعة ( حدث سياسي ) من الحجم الكبير هو أمر ممكن علمياً وإن كان صعب التنفيذ
نأتي إلى الجهة الأخرى ، وهي جهة الشعوب ... الشعوب الثائرة المتظاهرة ضد الطغاة والمنادية بحقوقها ومطالبها المشروعة ...
نلاحظ أن الشعوب الثائرة ترفض تماماً ( نظرية المؤامرة ) فيما يتعلق بثوارتها ، فلن يقبل التونسي ولا المصري أن تقول له بأن ثوراتكم هي جزء من مخطط محكم التنفيذ وأنكم مجرد بيادق صغيرة في ذلك المخطط ... لأنهم الآن لا يزالون منتشين بخمرة الانتصار وإسقاط الطاغية ونظامه الدكتاتوري ... ومن الطبيعي أن يرفضوا نسبة ( إنجاز ) حققوه هم إلى غيرهم ، كائناً من كان ..
ولو أردنا أن ندقق في ما يوجد داخل ( الذهنية العامة ) للشعوب الثائرة فإننا سنجدها قد طُبعت على برنامج موحّد ، أو متقارب ، بغضّ النظر عن الاختلافات الدينية والفكرية وغيرها ...
فالشعوب الثائرة تعتقد :
-- بأنها عانت ، وقاست ، وصبرت طويلاً ، ثم انفجرت ، وثارت ضد الظلم والطغيان ، وانتصرت أخيراً ...
-- بأنها توحدت ، ونبذت الاختلافات الدينية والطائفية والفكرية والعرقية ، وأنها وحدت كلمتها جميعاً تحت راية ( الوطن ) ..
-- بأنها جاهدت ، وقاتلت ، وقدمّت كثيراً من الشهداء ثمناً لإسقاط النظام وتحقيق الانتصار المظفّر ..
-- بأنها استعادت كرامتها المهدورة طوال سنين ، وأنها يحق لها الآن أن تقرر مصيرها بنفسها ، بعيداً عن أية تدخلات خارجية ...
وهنا تطفو على السطح فكرة ( الديموقراطية ) ، تلك الفكرة السرابية التي لا وجود لها سوى في أذهان الشعوب الحالمة ... والتي تلهج بها ليل نهار على أنها الحلم الذي شارف على التحقق ، وأنها المفتاح السحري لحل كل المشاكل أياً كان نوعها ، وتحقيق التقدم والرخاء والازدهاء ...
يقول الثائرون :
-- إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر
-- نحن الشعب ، بكافة أطيافه : نحن صنعنا الثورة ، نحن قاتلنا وانتصرنا ، ثورتنا عفوية سلمية عظيمة تاريخية يجب أن تُدرس في المدارس ، نحن حققنا إنجازاً عظيماً ...
-- نحن الشعب ، والشعب هو المصدر الأساسي للتشريع ، وللسلطات ... نحن سوف نحكم أنفسنا بأنفسنا ، لا مزيد من الظلم والخيانة بعد الآن ...
-- نحن الشعب ، وسوف نقيم بأيدينا دولة مدنية ديموقراطية غير عسكرية وغير دينية ، وسوف نضمن الحقوق لجميع الأديان والطوائف والمذاهب المنضوية تحت لوائنا ، لواء الشعب ، لواء الوطن ...
-- لن نسمح لأي أحد مهما كان بالركوب على الثورة لتحقيق أطماعه الخاصة أو الفكرية أو الدينية ، ثقوا بنا !! نحن سنحقق الديموقراطية ، ونضمن الحريات ، ونقرر بأنفسنا مصير البلد عبر انتخابات ديموقراطية حرة ونزيهة ....
هذا ما نسمعه تدندن به الشعوب الثائرة ، مما يجعلنا نشاهد بوضوح - مع الأسف الشديد - آثاراً واضحة للتغريب الفكري والسياسي الذي حوّل مسار العقول المسلمة إلى اختيار برامج غربية للحكم والتنمية ...
السيول الهادرة للشعوب الثائرة تنجرف في الشوارع وتعتصم في الساحات مطالبة بإسقاط الأنظمة ، وتحمل جلها أفكاراً موحدة قد تمت برمجتها عليها بعناية ، وعلى المدى الطويل ...
وبالتدقيق في الأمر ، فإن تلك البرمجة الذهنية التي تم تطبيقها على عقول الشعوب ، والتي جعلتها تختار الثورة ، وتحلم بالديموقراطية ، وتحجّم الإسلام وتفهمه بشكل مشوّه خاطئ ... هي برمجة مصدرها أصلاً ( وسائل الإعلام ) ، و ( مناهج التعليم ) التي يعلم الشعوب قبل الحكام ، والمكذبون بنظرية المؤامرة قبل المصدقين بها ... بأنها تحت السيطرة .... !!!
لا شيء من شأنه أن يوقف الشعوب إذا قررت الثورة على حكامها ، وحُقّ لها أن تثور !!! غير أن ذلك لا يخرجها من أن تكون بين المطرقة والسندان ...
فإن بقيت تحت إمرة الحكام فتلك مصيبة ، وإن ثارت فتلك مصيبة أخرى ، ومجازفة غير محسوبة العواقب ...
فلنا الله جميعاً ... !!!
وهو المستعان على ما شاهدناه ونشاهده من انحرافات في الرؤى وفساد في التصورات ، فإذا كانت الشعوب المسلمة في مثل هذه الظروف العصيبة هي أحوج ما تكون إلى توجيه العلماء المسلمين وتنبيههم ... فهل تسمع الشعوب لأقوال العلماء ؟؟
وهل نلومها على عدم الاستماع ؟؟؟ في حال لم تستمع ؟؟
نلاحظ أن الشعوب في حالة الثورة هي على استعداد كامل لتأييد وتبجيل وتعظيم أي عالم يؤيد الثورة ويصرخ مندداً بالحكام ، حتى وإن كان فاسد العقيدة ، وحتى وإن كان من ( علماء الجماهير ) ...
فالرابطة العقدية بين المسلمين قد أصبحت لاغية وغير سارية المفعول ، بحيث أن الرابطة الأقوى هي ( رابطة الوطن ) ، والوطن فقط ولا شيء غيره ...
ونلاحظ أن أي عالم يفتي بحرمة الخروج على الحاكم أو عدم جواز المظاهرات ، فإن الشعوب تتهمه فوراً بأنه ( عميل للنظام ) وبأنه من ( علماء السلاطين ) الذين يستغلون الدين ليحفظوا كراسي الحكام الظلمة الطغاة ...
وإنها والله لفتنة ... فعلماء الجماهير موجودون فعلاً ... وعلماء السلاطين موجودون فعلاً ....
فأين هم العلماء الربانيون الذين لايخشون في الله لومة لائم ؟؟ حاكماً كان أو محكوماً ... ويصدرون فتاويهم كتوقيع عن رب العالمين ، وليس توقيعاً عما يريده الجمهور ، أو عما يريده البلاط الحاكم ؟؟
This is a short description in the author block about the author. You edit it by entering text in the "Biographical Info" field in the user admin panel.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق