عرف “جمال عبد الناصر” دائمًا بأنه “أفضل قاريء“، فكان شغوفًا بالمطالعة، ودارسًا متميزًا لديه قدرة خارقة علي القراءة، وكذلك القدرة علي الاستيعاب والتذكر بنفس المستوي، فكانت رغبة جمال عبد الناصر شديدة في أن يعرف بنفسه كل شيء. وذلك في المراحل المختلفة من حياته منذ طفولته، ومرورًا بمرحلة الدراسة الثانوية، والدراسة في الكلية الحربية، وكلية أركان الحرب وانتهاء بمرحلة ما بعد ثورة يوليو، وشكلت قراءات عبد الناصر في بداية حياته النواة التي تمحورت حولها أفكاره ورؤاه.
ويأتي كتاب “بقلم جمال عبد الناصر”، تأليف د. خالد عزب، الباحثة صفاء خليفة، ليلقي الضوء علي قراءاته واهتماماته الفكرية خلال أهم فترات حياته، وكذلك الشخصيات التي أعجب بها وكان لها كبير الأثر في تفكيره في ظل الظروف الدولية والعربية من حوله، والتيارات السياسية والإيديولوجية التي عايشها بداية من أواخر الثلاثينات وطوال فترة الأربعينيات، وكذلك في مرحلة ما بعد قيام ثورة يوليو. وذلك من خلال ثلاثة أجزاء للكتاب:
الجزء الأول: الطالب الثوري والبحث عن الحرية
يتحدث عن اشتراك الطالب جمال عبد الناصر في جمعية الصحافة المدرسية، وانضمامه إلي أسرة تحرير مجلتها وكتابته عدة مقالات وطنية فيها ولم يكن قد تجاوز السابعة عشرة من عمره حيث بدأ جمال يقرأ في تاريخ الثورة الفرنسية، فقرأ حول “جان جاك روسو” و”فولتير”، وباقي الشخصيات البارزة للتنوير الأوروبي والثورة الفرنسية. ومضي يبحث عن الحرية التي دعا إليها “روسو“، و”فولتير” فيما يحيطه من بيئة وما يمر به من أشخاص. وشهدت المدرسة الثانوية أولي كتابات جمال عبد الناصر، وكانت مقالة بعنوان “فولتير رجل الحرية“نشرها في مجلة المدرسة وهو في سن السادسة عشرة من عمره. سجل فيها ملاحظاته عن فولتير، فلقد أعجب بثورته علي فساد نظام الحكم والكنيسة. وفي عام 1934 بدأ الطالب جمال عبد الناصر حسين وهو في السادسة عشرة من عمره في تأليف رواية “في سبيل الحرية“، التي تتصدر صفحتها الأولى صورة “عبد الناصر“، وتتناول في مضمونها المعركة الخالدة التي خاضها أهل رشيد بمصر عام 1807، عندما تصدُّوا للحملة الإنجليزية بقيادة فريزر، وألحقوا بها هزيمة منكرة ثم مقدمات الحملة الفرنسية وبعدها الاحتلال البريطاني. لكنه لم ينته منها، بل كتب ستة فصول استكملها بعد الثورة قاص يدعي “عبد الرحيم عجاج“، وقام بنشرها في الخمسينيات.
لم تقتصر علاقة عبد الناصر بالثقافة علي الكتاب، مطبوعًا ومخطوطًا، ففي عام 1935 لعب الطالب جمال عبد الناصر دور “يوليوس قيصر” البطل في مسرحية شكسبير التي قدمها فريق التمثيل في الحفل السنوي لمدرسة النهضة الثانوية، ورأي المدرس المشرف علي الفرقة التمثيلية، وهو الأستاذ نجيب إبراهيم، أن يترك للطلبة اختيار الرواية اللائقة لتمثيلها في الحفلة. ومضي جمال يطالع تاريخ قادة الشعوب وعند قصة قيصر توقف طويلاً. ويبدو أن الطالب جمال قد اضمر له إعجابًا شديدًا، لدرجة أنه قرر أن يضربها لنفسه وزملائه في مصاف المثل العليا لقادة الشعوب، وأسرع بها إلي مراقب الفرقة، وقدمها له في موجة طاغية من الحماس.. ووافق عليها المدرس، ووزع أدوار أشخاصها علي الطلبة أعضاء الفرق، حتى إذا لم يبق غير دور “قيصر” أشار إلي الطالب الذي تأثر بشخصية القائد الروماني وقال له: “وأنت تمثل دور قيصر”. وفي يوم السبت 19 يناير 1935، رفعت الستارة علي مسرح “برنتانيا“، وقدمت مدرسة النهضة المصرية مسرحية “يوليوس قيصر” في حفلتها السنوية، تحت رعاية وزير المعارف وقتئذ أحمد نجيب الهلالي.
كما تأثر جمال عبد الناصر بالأحداث في مصر وعلي صعيد العالم العربي والتي دفعته نحو كتابة بعض الخطابات إلي أصدقائه يستنكر فيها تلك الأحداث والتي كان أهمها إلغاء دستور 1923 واستصدار إسماعيل صدقي باشا لدستور 1930، فنجد اسم “جمال” من ضمن أسماء الجرحى في مظاهرات نوفمبر 1935. كما كان يراسل أصدقائه يحثهم علي المطالبة بعودة دستور 1923، وإلغاء دستور عام 1930، ونجد ذلك واضحًا في (خطاب عبد الناصر لحسن النشار عن الحركة الوطنية بين الطلبة لعودة الدستور).
ثم تأتي أحداث 4 فبراير 1942، ويعد هذا الحدث نقطة تحول في تاريخ حركة الثورة المصرية، كما أولد استياء بالغًا لدي الشعب والجيش معًا. وغضب ضباط الجيش من الأحداث وشعروا بالإذلال الذي واجهه الملك واعتبروه اعتداء علي الشرعية والسيادة المصرية وانتهاكًا للكرامة، وأن الطريقة التي سلم بها الإنذار اغتصابًا لاستقلال البلاد وسيادتها. واعتبرت كتائب الجيش بالذات أن ما حدث هو أسوأ إهانة وجهت إلي بلدها ونجد مثلاً (خطاب عبد الناصر لحسن النشار يبرز فيه موقفه من أحداث 4 فبراير 1942).
الجزء الثاني: جمال عبد الناصر ويوميات حرب فلسطين
كان لحرب فلسطين 1948 كبير الأثر علي فكر جمال عبد الناصر وقلمه أيضًا، بالإضافة إلي سلسلة من المقالات نشرتها مجلة آخر ساعة، عام 1955، تحت عنوان “يوميات الرئيس جمال عبد الناصر وحرب فلسطين“. لا يمكن قراءة تاريخ جمال عبد الناصر أو الإلمام ببعض جوانبه الثقافية والفكرية، من دون الاطلاع على الوثائق المكتوبة بخط يده في حرب فلسطين، فقد كانت جراح فلسطين غائرة في وجدان جمال عبد الناصر، على ما تكشف المذكرات المكتوبة بخط يده في الدفترين، وكان اعتقاده بأن حرب فلسطين لم تكُن حربًا، فلا قوات تحتشد، ولا استعدادات في الأسلحة والذخائر، ولا خطط قتال، ولا استكشافات ولا معلومات. واليوميات هي عبارة عن مجموعة التقارير العسكرية الرسمية التي كان جمال عبدالناصر يكتبها يوميًا على جبهة القتال، مسجلاً فيها بدقة ذكرياته عن الحرب كما عاشها وكل التطورات الميدانية والأوامر التي تصدر عن قيادة القوات المصرية وتحركات التشكيلات والاشتباكات اليومية، ومدى المعاناه والمهازل وكيف ضاعت فلسطين. في الفترة من سنة 1948 حتى نهاية سنة 1949.
في فلسطين وفي نهاية يونيو عام 1948، وخلال الأسابيع التي قامت فيها الأمم المتحدة بإقرار الهدنة. دأب الصاغ جمال عبد الناصر، رئيس أركان حرب الكتيبة، الذي رُقّي خلال هذه الحرب إلى رتبة “البكباشي” على تدوين مذكراته مسجلاً سخطه وهو في الميدان علي الذين يديرون الحرب من القاهرة ولا يدرون عنها شيئًا، وذلك في دفترين، الأول، دفتر رسمي، كتب على أساسه تقاريره إلى رئاسة الحملة، وسجل عليه “ملخص الحوادث والمعلومات” من تعليمات القيادة وحركة القوات وعمليات القتال، وضمنها ملاحظات وشهادات لها قيمة تاريخية تكتسبها من أن صاحبها رجل قُدِّر له بعد أربع سنوات أن يمسك بمقاليد الأمور في مصر، ويقود أوسع عملية تغيير اجتماعي واستراتيجي قلبت معادلات المنطقة وحسابات القوة فيها. والثاني، دفتر شخصي سجل فيه الأحداث والوقائع بتفاصيل أكثر تعبيرًا عن رؤاه وأفكاره، ودواعي الغضب الذي اعتراه من تخبط القيادة وغياب التخطيط، وهو غضب لخصه في عبارة قاطعة كتبها بخط يده “فقدنا الإيمان في قيادة الجيش… وفي قيادة البلاد“، وكانت تلك العبارة، بخلفياتها في ميادين القتال والفوضى الضاربة فيها، نقطة تحول جوهرية في حياة الناصر، حكمت مصيره ومصير مصر والعرب معه بعد سنوات قليلة.
كتب جمال يومياته عن حرب فلسطين تحت قصف المدافع مرتين في اليوم الواحد، يبدأ بالكتابة على الأوراق الرسمية التي يعتمد عليها في كتابة تقاريره لقياداته، فهذه هي ذاكرة الكتيبة السادسة، قبل أن يسجل يومياته الشخصية، والتي تتضمن مشاعره ومكنونات نفسه على ذات الأحداث، لكن الاعتبارات اختلفت في كل شهادة، فالمذكرات الشخصية أقرب إلى حقيقته، فقد كتبها من دون أن يخطر في باله أن مقاليد الأمور في مصر ستؤول إليه، كان ضابطًا شابًا في الثلاثين من عمره، يقاتل بضراوة، ولا يعرف إن كان سوف يعود إلى أسرته مرة أخرى، أم يلقى الشهادة في ميادين القتال، بدا فيها شجاعًا من دون أن يدّعي الشجاعة، مقتصدًا في عباراته، قلقًا على أسرته من بعده، والمذكرات الرسمية أبدى فيها بطريقة مبطنة ذات الاعتراضات على أداء القيادات العسكرية، لكنه لم يصرح بها، مكتفيًا بتسجيل حركة الأحداث يومًا بعد آخر، وتسجيل القرارات والارتباكات فيها، وملمحًا لغياب التخطيط والفوضى الضاربة داخل القوات.
وفي مذكراته الشخصية، سجَّل قلقه العميق على مستقبل الفلسطينيين، الذين تركتهم القوات العربية المنسحبة لمصائر مجهولة تحت وطأة احتلال لا يرحم، ورأى في وجوه فتيات فلسطينيات صورة ابنته الكبرى هدى، وصورة تزاوجت فيها الاعتبارات العسكرية والسياسية والأمنية والإنسانية. وعند قراءة اليوميات -الشخصية والرسمية- يبدو المشهد التاريخي متكاملاً، والمؤكد والمذكرات بخط يده تثبت أن حرب فلسطين لعبت بأحداثها وأجوائها والجراح الغائرة التي خلّفتها، دورًا حاسمًا في ثورة يوليو، إذ باشر عبد الناصر بعد عودته من ميادين القتال في إعادة بناء تنظيم الضباط الأحرار بصورة أكثر إحكامًا واتساعًا، وتشكيل هيئته التأسيسية، والتوجه إلى إطاحة النظام كله.
الجزء الثالث: جمال عبد الناصر وفلسفة الثورة
ويتعرض الكتاب لتحليل كتاب فلسفة الثورة، وهو أول وثيقة تصدر عن ثورة يوليو ومفاهيمها عام 1953 بعد نحو سنة من قيام الثورة في يوليو 1952، وهو كتاب يحمل أفكار الرئيس جمال عبد الناصر، قام بتحريرها وصياغتها الأستاذ محمد حسنين هيكل. والكتاب صدر سنة 1953، وهو مكون من ثلاثة أجزاء هي (ليست فلسفة، العمل الإيجابي، بعد غيبة ثلاثة شهور). والكتاب عبارة عن خواطر، ولكنها ليست لشرح أهداف ثورة 23 يوليو 1952 وحوادثها.
وبالإضافة إلي الرؤية السياسية والتحليلية لكتابات جمال عبد الناصر (رواية في سبيل الحرية، يوميات حرب فلسطين، فلسفة الثورة)، يوجد بالكتاب ملحق بالأصول الكاملة لكتاباته لمن يريد من القراء الإطلاع لعيها باستفاضة.
بقلم جمال عبد الناصر
المؤلف: د. خالد عزب، صفاء خليفة
دار النشر: أطلس
سنة النشر: 2011
عدد الصفحات: 319
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق