لثورة مصر تداعيات يصعب حصرها الآن. هناك الجانب المعنوي الذي يتردّد في كل أنحاء العالم العربي. يمكن التغيير السياسي بواسطة حركة شعبية سلمية تلتقي عندها كل الفئات المعترضة على السلطة وعلى النظام. بين الشارع الغاضب وبين أدوات القمع والترهيب يظهر النظام وجماعته أقلية يمكن تطويقها وعزلها. في كل الحراك الشعبي القائم في أكثر من بلد عربي هناك ثقافة سياسية جديدة وُلدت في مواجهة الاستبداد والفساد والظلم والتخلي عن الكرامة الوطنية. لا شيء يجمع هذه العناوين والقضايا ومواجهتها كما تجمعها العروبة والديموقراطية.
العروبة كما تتجلى اليوم ليست فكرة ضبابية شعورية فقط. شباب مصر أدرك الترابط العميق بين مساوئ النظام وانفصاله عن شعبه، وبين تبعيته للخارج وتخليه عن القضية الوطنية. في البلدان النامية، في العالم الثالث، في دول الأطراف المقابلة للمركز الإمبريالي المتقدم، هناك علاقة جدلية بين بلورة الهوية الوطنية وبين التقدم الاجتماعي والتنمية والديموقراطية السياسية. المواطنة والوطنية ركيزتان متكاملتان للاستقلال والحرية. في تجربة حركة التحرر الوطني العربية طغت المواجهة مع الخارج على تلك المواجهة مع الداخل، مع التخلف والثقافة التقليدية ومع تشوهات التطور الاقتصادي والاجتماعي. نجحت المواجهة السياسية مع الخارج عبر الاستقلال ثم انحدرت إلى التبعية مجدداً. في ثورة مصر اليوم التي اختمرت عبر ثلاثة عقود نضجت حركة وطنية تنطلق من مهمات الداخل، من بناء نظام جديد ودولة حديثة لمواجهة تحديات الخارج. لم تغب قضية فلسطين ولا اتفاقية كامب ديفيد ولا غياب دور مصر العربي في السودان، ولا مهانة التعاون مع إسرائيل والرضوخ للسياسة الأميركية، لم تغب هذه العناصر عن مشروع التغيير، بل اتخذت مدخلاً طبيعياً لها هو بناء نظام وطني ديموقراطي. يكفي أن تتردد على ألسنة شبان وشابات مصر تلك الشعارات التي تريد دوراً جديداً لمصر وموقعاً مختلفاً لها في العالم. لا يجب أن نستعجل أو نستبق هذا المسار بضخ الأفكار والبرامج والشعارات. كسر الشعب المصري العقدة الأساسية المتمثلة بالاستبداد والفساد والتبعية. هو الآن يتحضّر لممارسة سياسة ديموقراطية الأصل فيها إعادة السيادة للشعب كمصدر للسلطة. هذا هو المفتاح الأساسي لكل ما سيجري لاحقاً من إجراءات وإصلاحات وخيارات على المستوى الداخلي والخارجي. هذه ثورة برنامجها ليس رجلاً أو زعيماً أو حزباً يحمل أفكاراً مسبقة أو شخصية واضحة.
هذه الثورة بطبيعتها ديموقراطية لأنها بنت حركة شعبية متعددة الفروع والقوى والتيارات. من الخطأ أن نعيب عليها نقصاً في البرنامج أو ضعفاً في القيادة. لم يترك الاستبداد أصلاً حياة سياسية صحيحة وسليمة لتنتج قوى سياسية منظمة قوية فاعلة. لقد أنجزت ثورة مصر مهمتها الأساسية بإعادة الشعب إلى المسرح السياسي وهذا هو الأهم. لكن ذلك كله لا يقلل من أهمية الأفق العربي الذي انشق عن مدى واسع. لم يعد التغيير شبحاً مخيماً، بل صار واقعاً. هناك مناخ عربي جديد اقتحم ملفات فلسطين ولبنان واليمن والجزائر والخليج والنظام الإقليمي. صحح الشعب المصري جدول الأعمال. هو من يصنع التغيير لا الاحتلال الأميركي ولا دعواته الخادعة. هو من سيقرر إعادة بناء النظام العربي الإقليمي على أساس التعاون بين الشعوب والدول وليس على أساس الخنادق والمنازعات التي أخرجت إسرائيل من موقعها المركزي في التحديات التي واجهت وتواجه العرب منذ قرن. ما تقوله الشعوب العربية اليوم من أدنى العالم العربي إلى أقصاه إن مطالبها وهمومها هي بناء دولة حديثة قوية عادلة مستقلة وطنية ذات كرامة. فقد الحاكم العربي شرعيته في كل مكان. يُسأل الحاكم العربي ماذا فعل من أجل فلسطين والعراق ولبنان والسودان، ويُسأل ماذا قدّم لشعبه على طريق المشاركة والتنمية، وأين أصبحت ثروات الأمة ومقدراتها الهائلة التي يتحكّم بها الغرب عبر مجموعة ضيقة من «النخب» السياسية والاجتماعية. يُسأل الحاكم العربي لماذا لا يسمع لشعبه ولا يسمح له بالحرية ولا يقبل منه المشاركة في إدارة المجتمع. ويُسأل الحاكم العربي أخيراً لماذا صارت دولنا ممالك وأسراً حاكمة وعائلات مقدسة وصار حكّامنا آلهة، وصارت أحزاب السلطة إذا وُجدت، أو انبثقت عن نضال وطني وتضحيات كثيرة، لماذا صارت هذه الأحزاب مجرد أدوات سلطة قامعة ولم تعد إطاراً للتغيير أو قوة من أجل الحرية. في مكان ما يستعجل البعض الشعارات السياسية ويسأل عن مستقبل إسرائيل وعن المشروع الأميركي في المنطقة، وعن مستقبل النظام الإقليمي وهويته وطبيعة العلاقات بين أطرافه. ما نملكه من أجوبة هو أن العرب عبر حراك شعوبهم يكتبون تاريخاً جديداً بمعزل عن القوالب الإيديولوجية وهم بذلك سيختارون أنماط حياتهم وعيشهم وقياداتهم ويعرفون ببساطة هم مع ماذا وضد ماذا. هؤلاء الشباب الذين رفعوا المبادئ والقيم الإنسانية العليا، كالحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية لا يمكن تأطيرهم وتعليبهم بثقافات تقليدية عصبوية دينية أو طائفية أو جهوية. هم نقيض ما هو سائد الآن من انقسامات ونزاعات فئوية وسلطوية. هم نقيض قيم الثروة والمال المنهوب واقتصاد المافيا والخدمات في عالم يحتاج إلى قيم العمل والإنتاج والعلم وحقوق الإنسان. إذاً لا خوف على المستقبل.
- Blogger Comment
- Facebook Comment
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق