بعد هذه التوطئة ننتقل الى مناقشة دراسة الباحث الإسرائيلي رون شليفر. وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة بار أيلان وباحث في معهد بيغن السادات للدراسات. وهو يتساءل في هذه الدراسة ، كيف أمكن للمنظمات الفلسطينية وحزب الله أن يحققا إنجازات عسكرية وسياسية ملحوظة ، رغم ضعفهم العددي والعتادي : فهجمات حزب الله أدت إلى خروج إسرائيل من لبنان ، والانتفاضة الأولى أدت إلى إقامة دولة الأمر الواقع للفلسطينيين ، بينما لا نعرف ماذا قد تسفر عنه الانتفاضة الثانية من نتائج .
ويفترض الباحث أن كل هذه الإنجازات العربية كانت مرتبطة بصورة مباشرة بحرب المعلومات أو ما يسمى بالحرب النفسية. ومن هنا إهتمام شليفر بالتقديم لدراسته بفصل حول المنطلقات المفاهيمية للحرب النفسية. وذلك في محاولة منه لتقديم بعض الرؤى المستقبلية لدعم الموقف الإسرائيلي على صعيد الحرب النفسية.
ولقد وزع المؤلف دراسته على فصول أربعة هي التالية:
الفصل الأول : ماهية الحرب النفسية
يتخطى المؤلف إشكالية عدم إتفاق الباحثين على تعريف دقيق وشامل للحرب النفسية فيختصرها على انها عمليات تستخدم فيها وسائل إقناع غير عنيفة لتحقيق أهداف الحرب العسكرية. مع التأكيد على أن الحرب النفسية لا تحسم الحروب العسكرية وإنما هي مجرد أداة إضافية لتحقيق أهداف الحرب.
إن مصطلح دعاية taamolaهو أساس المفاهيم بسبب إعطائه معلومات من أجل تحقيق أهداف سياسية ، ولهذا المفهوم دلالات سلبية ، ولذلك يتم التقليل من استخدامه .
وفي إسرائيل يستخدمون المصطلح hasbara ويستخدمون مصطلح الحرب النفسية لوصف العمليات الدعائية التي تهدف إلى تحقيق الغايات المطلوبة في المجال العسكري في زمن الحرب .
وفي إسرائيل يستخدمون المصطلح hasbara ويستخدمون مصطلح الحرب النفسية لوصف العمليات الدعائية التي تهدف إلى تحقيق الغايات المطلوبة في المجال العسكري في زمن الحرب .
وفي محاولة تهرب واضحة من تقديم أمثلة ورؤى إسرائيلية بلجأ شليفر الى الكتب والمراحع والأمثلة الأميركية على ممارسات الحرب النفسية وتطبيقاتها. ومن الطبيعي ان يكون هذا العرض متضمناً للمغالطات الأميركية المعهودة في هذه المجالات. ومن هذه المغالطات نذكر التالية:
1- يقول شليفر أن الرسائل الأميركية قد خففت من حب العراقيين لبلدهم واحيت خوفهم على مصير عائلاتهم ( ص 3 ). الأمر الذي أدى الى تحطيم روحهم المعنوية. وهي مزاعم تدحضها إستمرارية المقاومة العراقية وتصاعدها.
2- يتجاهل المؤلف واقعة إنتماء الرسائل الأميركية المشار لها أعلاه الى الشائعات الغاطسة. التي تعاود الظهور في مناسبات معينة مثل الحرب. وبالعودة الى كتابنا الحرب النفسية في العراق يجد القاريء أن معظم هذه الرسائل قد سبق إستخدامها في حرب العراق الأولى.
3- يتبنى الباحث مصطلحاً أميركياً خادعاً هو " القنابل التمثيلية " ( ص 3 و4 ). وهي لم تكن تمثيلية بحال من الأحوال. إذ أن صوت هذه القنبلة كان يشمل كل السكان ويصيبهم بحالة تخدير حواسي ( Anesthesie Affecthve ) كما يسميها العالم مينكوفيسكي. وروي المتعرضون لهذه الأصوات أنهم كانوا يصابون بشلل الحواس لمدة تتراوح بين 10 و20 دقيقة. وعليه فإن هذه القنابل هي قنابل إرهاب تكتيكي وليست بالتمثيلية.
4- يبرر شليفر توزيع الإسنخبارات الأميركية على أجنحة على أنه نتيجة التصادمات السياسية الأميركية ( ص 4 و5 ). وفي التبرير إيحاء بإنقسام المخابرات الإسرائيلية لأسباب شبيهة. في حين أن المعروف في تقسيم الأجهزة المخابراتية هو تخصيص كل جهاز منها بتصنيع المعلومة بما يتناسب والشريحة المستهدفة بهذه المعلومة. حيث يتبدى تناقض تصنيع المعلومات بين الأجهزة بصور كاريكاتورية بمناسبات عديدة. وتكفي هنا العودة الى إشارات نعوم تشومسكي لهذه التناقضات في كتاباته العديدة.
5- يتوقف الباحث عند مرحلة " التعزيز والتقوية " ( ص 7 ). ويعطي عليها مثالاً الفشل الإسرائيلي في إقامة وتطوير العلاقات مع المدنيين والأحزاب في الجنوب اللبناني... وبذلك فهو يتجاهل إستحالة تطوير مثل هذه العلاقات بسبب طبيعة النزاع وديمومته. وربما هو أراد هنا الإشارة الى نجاح اسرائيل في تحقيق إختراقات أمنية عبر متعاونين فلسطينين. وهو هنا أيضاً يتجاهل أن إستشهادي واحد يهزأ من كل هذه الإختراقات ويحولها الى الشلل مهما بلغ مستواها من الأذى.
6- يتجاهل الباحث السؤال الذي يطرح نفسه حول نجاح الأميركين في تحقيق مرحلة التعزيز والتقوية في العراق بعد إحتلاله؟.
أما من الناحية النظرية فيرى المؤلف أن الحرب النفسية ترتكز الى ثلاثة عناصر هي:
1- الجمهور المستهدف بالرسائل المخابراتية.
2- الرسائل المخابراتية.
3- وسائل إيصال الرسائل المخابراتية.
وهو يقسم الجمهور المستهدف إلى ثلاثة فئات هي:
1- الداخل
2- العدو
3- الجمهور الحيادي.
هذا ويقسم الجمهور المستهدف بدوره الى ثلاث فئات هي:
1- الجمهور الداخلي ( الداخل): ويعتبر الهدف الأكثر أهمية. فعندما تريد دولة ما تجنيد كل طاقاتها للحرب فهي ملزمة بإقناع مواطنيها للقبول بأن يكونوا ضحايا محتملين لهذه الحرب.
2- جمهور العدو: وهذا القطاع يتقسم إلى: عسكريين ومدنيين ، والهدف هو إقناع العدو بأن لا أمل له في النصر ، وانه كلما انتهت الحرب بسرعة كلما كان ذلك أفضل له .
3- الجمهور المحايد ، وهم الناس الذين لا توجد لديهم علاقة مباشرة بالمعارك ، وذلك بهدف الحصول على تأييدهم .
أما بالنسبة للرسائل المخابراتية فهناك مجموعة من الرسائل التي تصاغ لتنقل إلى الجمهور المستهدف وهي تتغير بتغير الفئة المستهدفة:
1- رسائل لجمهور الداخل ، وهي رسائل تلبس العدو لباسا شيطانياً.
2- رسائل لجمهور العدو ، تظهر عدم وجود أمل في كسب الحرب.
3- رسائل لعموم المتلقين ، تتضمن إيراد أدلة عن العدالة والأخلاق في الميدان.
في النهاية فإن الهدف الرئيس للحرب النفسية هو زعزعة الوضع النفسي في أوساط جنود العدو ، ودفعهم إلى التفكير بشكل عام وطرح أفكار وجودية بشكل خاص .
وفي النهاية فإن إختيار وسائل وقنوات إيصال الرسائل هو عنصر شديد الأهمية. إذ يجب تحديد قناة الإتصال الأسهل لكل من الفئات المستهدفة. حيث يتم التواصل مع الجمهور المحلي بسهولة نسبية بواسطة وسائل الإعلام. لكن الصعوبات تكمن في إختيار القنوات المناسبة لإيصال الرسائل للعدو وللراي العام العالمي.
وفي النهاية فإن إختيار وسائل وقنوات إيصال الرسائل هو عنصر شديد الأهمية. إذ يجب تحديد قناة الإتصال الأسهل لكل من الفئات المستهدفة. حيث يتم التواصل مع الجمهور المحلي بسهولة نسبية بواسطة وسائل الإعلام. لكن الصعوبات تكمن في إختيار القنوات المناسبة لإيصال الرسائل للعدو وللراي العام العالمي.
الفصل الثاني : تطبيق مبادئ الحرب النفسية من قبل الفلسطينيين وحزب الله
في هذا الفصل الثاني بدأ البحث بمقاربة الناحية الثقافية – الحضارية. فيذكر خطأ الرسائل المصرية الموجهة للإسرائيلين عام 1948 والخطأ يكمن في استعمال هذه الرسائل لآيات قرآنية بدل المقاطع التوراتية ( ص 12 ). وهي ملاحظة متكررة حتى الملل علنا نتعلم صياغة رسائلنا بدون هذا النوع من الأخطاء. كما لا بد من التذكير بتفوق إسرائيل في صياغة مثل هذه الرسائل إستناداً الى الإسرائيليات المزروعة في تراثنا على الرغم من المراجعات المتكررة لها.
هذا ويعتبر شليفر أن مجرد إنفتاح العرب المحدود على الإعلام العالمي هو نصر لهم في حربهم النفسية ( ص 14 ). وكأن الإعلام العالمي إحتكار إسرائيلي ممنوع التجاوز!؟. بل وكأن صورة العربي الكريه ( الإسرائيلية الإخرج) يجب ان تبقى مفروضة على العالم. بما يذكرنا بالمرحوم ادوار سعيد وقائمة من المثقفين العرب الداعين الى ضرورة مخاطبة الجمهور الحيادي والراي العام العالمي لإطلاعه على الحقائق. ولخلق قنوات تواصل معه.
في الصفحة 15 يقول الباحث: ... حسب الفلسطينين فإن إسرائيل قامت بحرب نفسية لإشعال النزاع داخل المجتمع الفلسطيني... وفي هذا السياق تبدو الفكرة وكأنها واحدة من تخرصات نظرية مؤامرة ساذجة. في حين تشير الوثائق والوقائع الى سعي إسرائيلي حثيث لإشعال حرب أهلية فلسطينية. وذلك منذ قرارها الإنسحاب من غزة في اوسلو ولغاية إغتيالها للقادة الفلسطينيين وتجويع الششعب الفلسطيني بحصاره. ومن المحاولات الإسرائيلية لإشعال نزاع داخلي فلسطيني نذكر:
1- دراسة تحليلية لشخصية ياسر عرفات ( نشرها مركز باحث بالعربية) هدفت الى الإيحاء بضرورة الخلاص من عرفات والحد من تأثيره بفرض تعيين رئيس وزراء يقاسمه الصلاحيات. بحيث يتم إصطناع إنشطار في رأس السلطة تمهيداً للتخلص الإسرائيلي من الوعود المعطاة أيام كلينتون.
2- الإعلانات الإسرائيلية المتكررة عن وجود عشرات آلاف المتعاونين من الفلسطينيين. وهي تدخل في إطار الحرب النفسية عبر ما يسمى بشائعات الخيانة والإختراق. وهذا لا يعني إنكارنا لوجود المتعاونين وإنما يعني التاكيد على إستغلال إسرائيل لهذه الواقعة وتوظيفها لها.
3- التدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية لغاية إجبار السلطة على إقامة تنسيق أمني مع الإستخبارات الإسرائيلية.
4- الإصرار الإسرائيلي على إستبعاد فصائل فلسطينية واسعة التمثيل الشعبي. وذلك لغاية تصنيفها إرهابية.
5- العمل على إثارة النعرات الطائفية بمختلف المناسبات والسبل المتاحة.
6- سياسة الإغتيالات الإسرائيلية. التي تمثل إرهاب الدولة أفضل تمثيل.
هذا ويرى الباحث أن الفلسطينيين أدركوا في مرحلة مبكرة للصراع أن الخيار العسكري لحرب العصابات لن يعطي الثمار المرجوة. ولذلك وظفوا الكثير من الجهد في مجال الإقناع ( الدعاية ). وكان العمل المبذول يستهدف فئات الجمهور الثلاثة في آن معا ( الفلسطيني والإسرائيلي والعالمي ).
لقد كانت الرسالة الأساسية للإنتفاضة تتلخص في أن الاحتلال الإسرائيلي غير عادل وغير أخلاقي ، وهذا أمر شاذ يجب أن ينتهي ، وكان الهدف هو أن يتم الإثبات للمسيطر أن الأرباح التي يجنيها من بقائه على الأرض أقل بكثير من الكلفة ، ومن أجل ذلك عرضت آلاف الحوادث التي تؤكد هذا المبدأ. وهنا ذكر الباحث نقطة من أهم نقاط التفوق الفلسطيني في مجال الحرب النفسية. وهي نقطة القهر الذي يجعل الفلسطينين يتقبلون عرض صور الجرحى والقتلى والمشوهين وغيرهم من الضحايا. وهي صور لا يتحملها الجمهور الإسرائيلي في صفوفه لأنها تولد لديه مخاوف هيستيرية يصعب على الأجهزة الأمنية السيطرة عليها.
بالإنتقال الى حزب الله يرى الباحث أنه قد نجح في فرض نموذجه على دولة عظمى عسكرياً. وكان الجمهور المستهدف الأول بدعاية حزب الله هم السكان المحليون في جنوب لبنان. حيث أرسلت لهم رسائل تؤكد على خيانتهم للوطن إن هم تعاونوا مغ المحتل. أما الجمهور الثاني فكان العدو الذي يضم الجيش الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي. وقد تم دمج العمل النفسي مع العمل العسكري. حيث استطاع حزب الله تحديد نقطة الضعف لجيش جنوب لبنان واستخدمها في حرب العصابات. وقد جند حزب الله عملاء له داخل جيش جنوب لبنان. وهؤلاء أعطوا الإحساس بأن كل شئ مكشوف أمام حزب الله مما ساهم في انهيار الروح المعنوية لجيش لبنان الجنوبي .
لقد أعطى الإلمام بالثقافة الإسرائيلية ثماره من خلال الاستفادة في تشكيل الرسائل ، فقضية الأسرى وخاصة قضية رون أراد ،وكذلك المفقودون، شكلت سوطاً لإسرائيل. فموضوع افتداء الأسرى لا يزال محفوراً بشكل عميق في الثقافة اليهودية ، وقد أجاد حزب الله إستغلال هذا العامل الثقافي بحسب المؤلف.
كما يتطرق المؤلف الى حرب الانترنت بين اشرائيل وحزب الله ليرى أن مواقع الانترنت التابعة للحزب تمكنت من إيصال رسائل مخيفة للجمهور الإسرائيلي. مما دفع بالسياسيين الى طلب وقف هذه الحرب.
لكن المتابع لحقيقة ما حدث يجد أن التفوق التقني – المعلوماتي الإسرائيلي قد نمكن من تدمير مواقع الحزب. في المقابل وجه الحزب رسالة الى العرب والمسلمين في انحاء العالم من المتخصصين والمهتمين بالانترنت. فكانت النتيجة تاسيس نواة معلوماتية ضخمة يمكنها التحول الى تجمع انترنت عالمي ومتعدد اللغات والجنسيات ضد إسرائيل. وهذا ما أجبرها على التراجع. وبالمناسبة فإنه من المناسب أن نستمر في توجيه مثل هذه الرسائل والحفاظ على علاقات تواصلية مع هؤلاء العرب والمسلمين لتحويل النواة من حالة طواريء الى حالة منتظمة.
الفصل الثالث : الفشل الإسرائيلي – مصطلح الإعلام hasbara - تحليل تنظيمي ومفاهيمي.
العنوان بحد ذاته مضلل فصفة الفشل هي ترجمة لجنون العظمة الإسرائيلي. إذ تحظى إسرائيل عبر يهود العالم على سيطرة إعلامية تتخطى حجمها الطبيعي بعشرات الأضعاف. وبالنظر الى هذا التضخم فإنه من الصعوبة بمكان زيادة مستوى الهيمنة الإعلامية الإسرائيلية. ويمكننا هنا أن نسرد جملة كتابات يهودية تتقزز من أسلوب إستغلال إسرائيل للمحرقة. ونعرض في ما يلي لنماذج منها:
خرافــة المحرقــة
لدى نهاية الحرب العالمية الأولى صرح القائد الالماني "لاندروف" أن اللورد نورثكليف (صاحب جريدة التايمس) هو الذي كسب الحرب وليس لويد جورج (رئيس وزراء بريطانيا). وتفصيل ذلك أم التايمس كانت قد نشرت في عددها الصادر في 16/4/1917 خبرا" ، هو مجرد شائعة، عن وجود مصنع ألماني لتذويب الجثث واستخدامها علفا" للخنازير وسمادا" للأرض. ثم أتبعته في الأيام التالية بأخبار مؤكدة له. وجارتها في ذلك بقية الصحف الانجليزية. ولم تتضح الرواية رسميا" إلا في 25/10/1925 حين نشرت إحدى المجلات الانجليزية الحقيقة. فقد وقعت برقية بيد مراسل التايمس حول مصنع لإستغلال جثث الحيوانات. فما كان من المراسل إلا أن حرفها محولا" المصنع إلى إستخدام الجثث الآدمية بدل الحيوانات. وعبثا" حاول الإعلام الألماني تكذيب الشائعة لكنه فشل. ولو إتبعنا أبسط مباديء الحرب النفسية وسيكولوجية الشائعات لوجدنا أن هذه الشائعة كانت أولى الشائعات المرشحة للإطلاق في الحرب العالمية الثانية. فهي تسيء إلى إنسانية الألمان وتوقد الحماسة في أعدائهم. إن شائعة المحرقة هذه هي من نوع الشائعات الغاطسة التي تنكشف وتذبل لتعاود الظهور في الظرف المناسب. لكن شائعة محرقة الحرب الثانية تم تبنيها من قبل اليهود وهم لا يزالون مصرين عليها. ومعادين لكل من يشكك فيها. وهم مستمرون في إستثمارها.
علماء الدعاية يحددون لها عتبات ففي المرحلة الأولى تعطي الدعاية نتائج ايجابية تتصاعد تدريجيا" حتى تبلغ العتبة الأولى ( قمة التأثير الدعائي). التي لا يكون الاستمرار بعدها مجديا" فإذا ما حصل فانه قد يوصل موضوع الدعاية إلى العتبة الثانية. وفيها تصبح آثار الدعاية سلبية فتؤدي الى النفور وتعطي نتائج معاكسة لتلك المرجوة منها.
هذا المبدأ ينطبق على الدعاية التجارية كما على السياسية. ولعل مبالغة اسرائيل في استغلال الهولوكوست خير مثال على المبالغة الدعائية. حيث وصلت دعاية المحرقة الى حدود تنفر قسما" من اليهود وتثير اشمئزازهم وتقززهم (1). ولو نحن راجعنا الكتابات حول صدمات الحروب ومعاناة الأسر لوجدنا المعاناة اليهودية تحتل الواجهة.على الرغم من وحشية الحروب التي عرفتها البشرية خلال القرن الماضي ولما تزل. وبمراجعة الكتابات اليهودية في المجال نقع على بحوث كاريكاتيرية تثير الاشمئزاز وتستثير الضحك وتطرح موضوع اخلاقيات البحث العلمي والتزوير قيد المناقشة. مثال ذلك بحث نشره الطبيب روبرت فيش في المجلة البريطانية للطب النفسي العام 1989 تحت عنوان "التكتم ومشاعر الفقدان لدى الناجين من الكوارث" (2). ويعرض لحالة امرأة في الثامنة والخمسين. عانت من مخاوف الاعتقال عندما رحلت الى مخيم للاجئين اليهود يوم كان عمرها 12 سنة. وهي تشكو من عوارض يصر فيشر على علاقتها بالخوف من النازي!. علما" بان مراجعة بسيطة لعوارضها تبين انها من العوارض المألوفة لدى الجميع في سنها.
هذه المبالغة ومثيلاتها تثير قرف الباحثين العلميين ومثلها المبالغات على الصعد الأخرى من اعلامية ومعارض للهولوكوست وافلام وغيرها. بل ان هذه المبالغة تثير مسألة حقوق الانسان وتدعو الى مراجعتها بصورة جذرية. فلو راجعنا اعداد وظروف الضحايا التي تسقط في لحظة قراءة هذا النص لوجدنا ان عالمنا الراهن مزروع ببراكين الصراع المتفجرة وبالمجاعات والفقر والتهجير وغيرها من المآسي. فهل يتوجب على الانسانية ان تتجاهل وتهمل كل هذه الكوارث وتقف على اطلال الهولوكوست منتحبة ومستمرة في تقديم الاعتذارات بعد مضي اكثر من ستين سنة؟!.
لقد تحولت مسألة “الهولوكوست” الى عملية ابتزاز دولي وتاريخي منظم حتى تحولت مناقشة هذه المسألة الى واحدة من المحرمات (التابوات). حيث تعرض العديد من المفكرين والأساتذة الجامعيين للاضطهاد بسبب الهولوكوست. ومنهم روجيه غارودي وغيره من الباحثين الذين تطرقوا للموضوع فنالتهم ممارسات الارهاب الفكري بدءاً بالطرد من الوظيفة وصولاً الى الاعتداء الجسدي والتهديد مروراً بتحطيم واجهات المكتبات التي تبيع كتب هؤلاء. وهكذا احتكر اليهود حق الحديث عن الهولوكوست وتقديم الدراسات والآراء حوله.
وبطبيعة الحال فان تهمة “اليهودي الذي يكره نفسه” جاهزة ضد كل يهودي يسيء استخدام هذه الحصرية في حق مناقشة المحرقة. وخصوصاً عندما يتجرأ هذا اليهودي على مناقشة ونقد السلوك اليهويد في استغلال الهولوكوست. ومع ذلك فان عدداً لا بأس به من الكتاب اليهود تجرأوا على اتخاذ مواقف ناقدة لهذا السلوك ومكذبة للايحاءات والمبالغات اليهودية في هذه القضية. ومن اهم الكتابات اليهودية في المجال نذكر:
1ـ صناعة الهولوكوست /تأملات حول استغلال المعاناة اليهودية (3)
Finklestein Norman: the Holocaust Industry:
Syffering, verso Books, New york 2000
هو عنوان الكتاب الصادر للأكاديمي الاميركي ـ اليهودي نورمان فينكلشتاين. المتحدر من عائلة فقدت معظم أقاربها في المعتقل النازي وكان والداه من الناجين من معسكر اعتقال في وارسو.
باديء ذي بدء يسأل القاريء لماذا يورط نورمان نفسه بنشر هذا الكتاب الذي يلصق به تهمة “لا سامية الأنا” ويحوله الى هدف للاساءة اليهودية ويحرمه من المساعدات التي يمكنه الحصول عليها بصفته اليهودية!.
وهذا السؤال ليس صعباً بالنسبة الى نورمان اذ يجيب عليه بعفوية كررها في عدة لقاءات ومقابلات صحافية. وهو يقول: لا استطيع السماح لاحد باستغلال عذابات والديَّ والمتاجرة بهما مهما كان الهدف من ذلك!
ويذكر المؤلف بأن والده بقي حساساً تجاه تجربة الاسر وذكرياتها لدرجة انه كان يرفض دائماً الحديث عنها او تذكرها. وذلك على عكس والدته التي كانت تجد لذة ما في تكرار الحديث عن هذه الذكريات ( بما ينسجم مع الرغبة النسوية الاستعراضية والميل للمبالغة) ولكنها مع ذلك اعربت عن اشمئزازها وقرفها عندما شهدت بدايات تصنيع الهولوكوست في اميركا.
منذ عنوان الكتاب يلفتك مصطلح “صناعة” وهو ذو دلالة بالغة. فهو ينطوي على تهمة لليهود باصطناع الهولوكوست. فكيف تم هذا الاصطناع وما هي اسس صناعة المحرقة بحسب المؤلف؟
يقول نورمان بأن معلوماته الخاصة تشير الى ان العدد الحقيقي للناجين من الاسر النازي هو 50 الف ناج. توفي 20 ألف منهم في الاسبوع الاول التالي لتحريرهم (وبمراجعة الكتابات المتخصصة نجد ان وفاة هذه النسبة ـ ثلث المحررين ـ تتطابق مع نتائج دراسات طبية ونفسية وسيكوسوماتية عديدة). ويضيف نورمان بأن العدد الحقيقي للناجين يصبح 30 ألفاً. لكن صناعة الهولوكوست بدأت بعد ذلك. اذ شهد نورمان نفسه على ادعاء اصدقاء والديه بأنهم من ضمن الناجين! (وهو ادعاء كاذب طبعاً. الا انه حظي بتشجيع يهودي ـ صهيوني وبتجاهل اية محاولة لضبط اعداد الناجين وتمحيص ادعاءاتهم). ويتابع نورمان بأن هذه الادعاءات (صانعة الهولوكوست) قد وصلت الىقمتها في الخمسينيات والستينيات. حتى تحول معظم اصدقاء والديه، كذباً، الى ناجين ومعتقلين سابقاً.
بناءً على هذه المعايشة وعلى رفضه المتاجرة بعذابات والديه يقرر نورمان بانه يميل احياناً للتفكير بأن اسوأ ماحدث للهولوكوست هو اكتشاف اليهود له. فقد ادى هذا الاكتشاف الى تضخيمه وتوظيفه لنشر الاكاذيب ولتورية الجرائم الاسرائيلية البشعة!. وهو يرى ان الاسرائيليين شرهين وطماعين لدرجة المتاجرة بعذابات البشر ومعاناتهم!. وهذا ما يدفعه لاعتبار المتاحف والمعارض والاحتفالات التذكارية، التي تقام بمناسبة المحرقة، مجرد “سيرك” (مع ما تحمله كلمة سيرك من دلالة استعراضية ومن استغلال للانسان والحيوان). اما عن مطالبة اسرائيل للبنوك السويسرية بأموال اليهود فان المؤلف يعتبر هذه المطالبة نوعاً من أنواع النصب والاحتيال الذي تقوم به دولة وليس اشخاصاً. ويضيف نورمان بأن التصنيع المبالغ (تحول جميع اليهود بعد فترة الى ناجين من المذابح!) والعروض الفظة لقضية الهولوكوست كان من شأنها ان تحرك المشاعر المعادية للسامية وتعيد احياءها!؟. خصوصاً في اوروبا واميركا.
أما عن تجارة الهولوكوست فيرى نورمان انها بدأت في اميركا بعد حرب (1967) فقبلها لم يكن للمحرقة وجود في الحياة الاميركية. ويظن بعضهم انها ادخلت لجلب التعاطف مع اسرائيل. وذلك على عكس ما يعتقده المؤلف إذ يؤكد ان احياء ذكريات الهولوكوست وعرضها على الجمهور الاميركي كانا خدمة للاستراتيجية الاميركية. فبعد انتصار اسرائيل في حرب (1967) تحولت الى ربيبة اميركا المنتصرة وحامية القيم الاميركية. وهو وجه كانت تحتاجه الولايات المتحدة بعد خسارتها حرب فيتنام وبالتالي بعد عجزها عن حماية القيم الامريكية وفقدان مصداقيتها اقام الفيتناميين الجنوبين وامام الجمهور الاميركي نفسه. وبمعنى آخر فان اميركا كانت اكثر حاجة لانتصار (1967) من اسرائيل نفسها. وهكذا وجدت النخبة اليهودية ـ الاميركية الطريق ممهدة لرفع راية الدفاع عن اسرائيل وايضاً لابتداع صورة هولوكوست اميركية مناسبة. حيث استغلت هذه النخبة مواقعها المميزة ونفوذها بحيث باتت الولايات المتحدة مزروعة بالمتاحف والمعارض التذكارية للهولوكوست اليهودي. كل ذلك في مقابل تجاهل تام لمذابح هتلر للغجر (شركاء اليهود في الهولوكوست) وكذلك لضحايا الشيوعية وهم يفوقون ضحايا الهولوكوست بعدة اضعاف (بحسب المؤلف). كما يؤكد فينكلشتاين على ان عدد ضحايا الغجر في الهولوكولست يفوق عدد اليهود ومع ذلك يتم تجاهلهم وكذلك تجاهل الملايين الذين قضوا نتيجة تجارة الرقيق والهنود الحمر الذين تعرضوا للابادة!! لذلك فهو يضيف ان وجود متحف للهولوكوست في واشنطن يتعارض مع غايات متاحف اخرى للجرائم التي ارتكبت عبر التاريخ الاميركي.
وينهي فينكلشتاين بأن الهولوكوست كان تجربة جعلت والداه يتعاطفان مع معاناة المضطهدين من البشر وهما لم يعتقدا بأن تجربتهما كانت ظاهرة منفردة في تاريخ
البشر كما يحاول تجار الهولوكوست اظهارها
2ـ الهولوكوست في الحياة الاميركية(4)
Novick Peter: The Holocaust in American life
عندما يتصدى كاتب يهودي اميركي للمواضيع المحرمة (تابوات) للوبي اليهودي الاميركي. فان هذا اللوبي ينتقم على طريقته الخاصة. فاللوبي اليهودي الاميركي يستثمر هذه التابوات اليهودية وخصوصاً المحرقة (الهولوكوست) افضل استثمار.
لذلك يطرح سؤال مزدوج مع كل كتاب يصدره يهودي ويتضمن معارضة لاساطير وشائعات اللوبي اليهودي ـ الاميركي. الوجه الأول للسؤال هو: لماذا يجيب هذا اللوبي بكل ما يملك من عدوانية؟ والثاني: لماذا يضع المؤلف نفسه في وضعية” اليهود ي كاره نفسه”؟.
بالنسبة للشطر الأول من السؤال فإجابته ان اللوبي لا يريد ان يخسر شيئاً من مكاسبه وسيطرته المالية(16 من أصل 40 من اغنى اغنياء اميركا هم من اليهود. ومتوسط دخل الاميركي اليهودي 45 الف دولار … الخ). اما الجواب عن الشطر الثاني فهو يتعلق بالدوافع الذاتية الخاصة بالمؤلف. فقد قبل تشومسكي تهمة لا سامية الأنا مدفوعاً بافكاره الماركسية وقبلها فينكلشتاين دفاعاً عن ذكرى والديه. وها هو مؤلف كتاب “الهولوكوست في الحياة الاميركية” البروفسور بيتر نوفيك يعرض نفسه بدوره لهذه التهمة ! فلماذا؟.
تخرج من قراءة الكتاب بانطباع مفاده ان المؤلف يريد ان يدافع عن الهولوكوست ويريد تعويض الخطأ البنيوي في الشخصية اليهودية التي تستغل الامور دون ان تعرف متى يجب ان تتوقف او ان تنسحب. فقراءة نوفيك للهولوكوست تعتمد على النظرية الاستقرائية. وهي تقول باختصار ان استمرار اليهود باستغلال الهولوكوست، بعد اكثر من نصف قرن على حصوله، لا بد له من ان يعطي نتائج عكسية ومضادة لمصلحة اليهود. ويحدد نوفيك هذه النتائج الضارة بالنقاط التالية:
1ـ انها تحول هتلر الى بطل تاريخي. وتجلب له الدعاية.
2ـ انها تجعل الرأي العام يميل للاعتقاد بصوابية ما فعله هتلر بدليل هذا التنظيم اليهودي الفائق والمستمر بعد اكثر من نصف قرن على وفاة هتلر.
3ـ اعادة احياء مشاعر “معاداة السامية” كنتيجة طبيعية للدعاية المكثفة والمبالغة والابتزاز الناجم عنها.
4ـ خلق اجواء معادية لليهود لدى المجموعات الاخرى التي تعرضت للاضطهاد سواء في الهولوكوست او في مناسبات اخرى.
وبالرغم من هذه التحليلات التي تحتمل النقاش فقد قامت جريدة “نيويورك تايمز” بشن هجوم عنيف على المؤلف واصفة اياه باستاذ التاريخ الجاهل. الذي لا علم له بالتاريخ وخاصة بالتاريخ اليهودي. وتوصلت الجريدة الى الجزم بأن كتاب نوفيك (استاذ التاريخ بجامعة شيكاغو) هو كتاب لا معرفي وفاقد للمعلومات!.
من جهته يرى نوفيك ان هنالك موقفان يهوديان من المحرقة. الاول يقول بأن مذابح الماضي هي مناسبة تعيسة على اليهود ان يذكروها بالاعتكاف (وهذا الموقف ينسجم مع الانثروبولوجيا الثقافية اليهودية التي تضم حائط المبكى الى نظمها الرمزية). اما الموقف الثاني فكان يدعو لاستغلال رؤية المسيحيين وهم يبكون لرؤيتهم مناظر التعذيب في الهولوكوست. وهذا البكاء يعكس مشاعر ذنب تستحق الإستغلال من خلال استعراضية مشاهد الهولوكوست.
ويرى نوفيك ان الغلبة كتبت لاصحاب الموقف الثاني ولكنه يأخذ عليهم جملة ملاحظات. هي في الواقع إنتقادات تستفز هذا الفريق من اليهود. وتتلخص بـ :
1 ـ من الخطأ ادخال العذابات اليهودية في التاريخ الاميركي. بحيث تصبح جزءاً من هذا التاريخ. لأن هذه العذابات لم تحدث في اميركا اصلاً. وبالتالي فان ادخالها قسراً في التاريخ الاميركي هو تزوير يستثير المشاعر اللاسامية.
2 ـ ان محاولة استغلال تعاطف غير اليهود وشعورهم بالذنب هي محاولة لتجنيدهم للعمل لصالح الصهيونية. وهذا الاستغلال قد نجح لفترة ما لكنه بدأ يعلن فشله عبر ما يمكن ملاحظته من تبرم قطاع من الأميركيين من تكرار حكايات مضى عليها اكثر من نصف قرن.
3 ـ ان تكرار الحديث عن مذابح المحرقة كل هذا الوقت جعل اليهود يظهرون وكأنهم فخورين بما فعله بهم هتلر. وكأنهم يتسابقون مع الآخرين حول من تعذب اكثر ليستحق عطفاً اكبر!
4 ـ استغلت اسرائيل حرب (1973) لتوريط مباشر للولايات المتحدة ولاعادة احياء قلق اليهود الاميركيين من احتمال حدوث هولوكوست جديد في الشرق الاوسط. وكذلك قلق هؤلاء اليهود من احتمالات عدم تكرار التدخل الاميركي المنقذ لاسرائيل في حال تكرار الموقف المهدد لاسرائيل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق