ليست الوحدة العربية فكرة سياسية أو إعلامية، وإن كانت السياسة والإعلام من خصائص تداولها في سياق الحياة اليومية للمجتمع. لكن في مرحلة الاستقلالات ونشوء الدول القطرية بدا أن الوحدة تتلخص في تلاقي القطريات وقيام الدولة العربية الكبرى. كان وعي الطلائع في تلك المرحلة جذرياً فيما يتعلق بحتمية التحقق الوحدوي، كغاية واقعية تسير نحوها دول الاستقلال الوطني.كما لو كان الاستقلال بعد نزوح التسلط الأجنبي عن هذا القطر أو ذاك، ليس سوى المدخل التاريخي نحو اللقاء العضوي للأقطار. إذ كان مفهوم الوحدة آنذاك يوازي بين تكاملية الجسد العضوي الحي، وتلاقي الأقطار بعد أن كانت أعضاء متفرقة لهذا الجسد، ثم أتيح لها أن تعيد اللحمة الضائعة فيما بينها.ما يعني أن الوحدة قبل أن تكون شعاراً سياسياً يغيب أو يحضر بحسب الظروف الملائمة لأطروحات أيديولوجية معينة، تابعة لتشكيلات سلطوية أو حزبية، قد ترفعه كشعار أو تهمله كفكرة صعبة التحقيق وقابلة للإهمال والنسيان، قبل أن تكون الوحدة كرة هوائية تتقاذفها تجاذبات التحولات المتعارضة المسيطرة على مسرح النهضة العربية الثانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الوحدة رديفة لإحساس المجتمعات العربية بهويتها الذاتية. ذلك أن الهوية لا تحدد مجرد انتماء قانوني تابع لدولة، أو لإرادة شخصية. إنها دلالة وجود فردي جماعي معاً. فالتعريف الأصلي للهوية هو ما يعرفه المرء عن ذاته، عما يخصه ويشاركه الآخر فيه كذلك. هذا الآخر يمكن أن تمتد مساحته إلى أوسع دائرة، تتصاعد من بقعة الفرد فالأسرة فالمحيط المباشر إلى جغرافية إنسانية شاملة للمجتمع، ومن ثم للأمة.كل تفكير تداولي حول الوحدة كان ينطلق من ثوابت يقينية مفترضة، أولها هو التسليم بمفهوم معين عن الأمة. ومن ثم اعتبار أن العرب يشكلون أمة. وثالثاً أن هذه الأمة هي واحدة. وغني عن البيان أن هذه المفاهيم ينبغي ألا تبقى مجرد مسلّمات لا حاجة لها بإعادة التفكير وبالتالي، بإخضاعها إلى منهجيات في التفكيك والتأويل. هنالك التجربة التاريخية المعاشة خلال حقبة النهضة، التي وضعت هذه المفاهيم رهن امتحان الممارسات الأيديولوجية والسياسية. فالخارطة القطرية استطاعت إنتاج واقع قوميات، يمكن وصفها بالفرعية، لكنها قد لا ينظر أكثرها إلى ذاتها من هذه الوجهة، بل نرى فيها نوعاً من كيانات نهائية، أو أنها قائمة بذاتها، وبصرف النظر عن سواها. هنا يتعرض أقنوم وحدة الأمة إلى صدمة الواقع الانفصالي والمتعارض بين كياناته. بمعنى أن استمرارية التجزئة السياسية، والاعتبارية حسب القانون الدولي، راح يسبغ على الدولة القطرية مبدئية الاستقلال والسيادة معاً. حتى يمكن القول ان الكيان القطري لم يبق مجرد إطار جغرافي حقوقي؛ بل انخرط كذلك في إنتاج كينونة مجتمعية، لم تلبث أن اكتسبت ملامح ذاتية في السلوك الفردي والجماعي. أي أن مصطلح (القطريات) يتضاءل عكسياً مع تنامي خصوصية مجتمعية، ليصبح كيانات لدولٍ نهائية. ومع ذلك يستطيع المراقب الموضوعي أن يحدد الخصوصية القطرية هذه على أنها من طبيعة فرعية. وترجمتُها الفكرية، أنها من أعراض الجوهر، وليس من مكوناته الماهوية. فقد تدخل القطريات تحت صيغة الاغتناء التعددي فيما هو نسيج أشمل تكاملي. بل أصبح يمكن القول أن عالماً عربياً مكوناً من عشرين دولة ونيف، منخرطاً في خط من الاستمرارية لخمسة أو ستة عقود، ومرشحاً لديمومة مستقبلية لا يبدو أنه سوف يسجل مرحلة انتظار وإعداد وتنمية لمشروع وحدوي سياسي قادم؛ إنه عالم مستغرق وماض في واقع متفاصل، وليس سائراً في تنوع متضامن أو متكامل. فالتفرقة السياسية، الدولانية السيادية، تقدم نفسها على أنها هي الواقع، أو الأمر الواقع، القابل للاستمرار، وأن الوحدة هي التي تتقهقر من مستوى غائية تاريخية محتومة، إلى مجرد أحلام طوبائية. كأنما الجغرافية الانفصالية الموروثة عن عصر الانحطاط ثم الاستعمار والمفروضة من قبل المشروعية الدولية، قد صار لما من قوة الترسخ والفعالية اليومية، ما يجعلها تنافس ما يتمتع به التراث التكويني لتاريخ الأمة؛ من قوة الدفع نحو استعادة الشخصية المفهومية الموحدة للشتات، ما فوق هيمنة التماثلات الجمعية. وهي تلك العوامل المتوارثة، والعاكسة لصورة الأمة عادة في عين أجيالها، والتي يُعْتَدّ بها جدلياً عند كل محاجّةٍ لإثبات الوحدة الذاتية للأمة، كاللغة أو الثقافة والدين وأنماط العادات والتقاليد إلى جانب أصول الترابط أو التكامل في الظروف المادية، وفي الانخراط التماثلي في صراعات الدفاع عن الهوية والاستقلال وحرية القرار السياسي والتنموي. فلا يزال الفكر الوحدوي التداولي يمتح محاجَّته المركزية من ذخيرة هذه العوامل التسويغية. وهي في حقيقتها كأنها تكرس وجوداً افتراضياً لكل أمة استناداً لمعقولية تلك العوامل كأسباب ضرورية وكافية، لقيام أية أمة كأقنوم فلسفي مجتمعي قبل أن يتحدد أو يتعين بهذا الكيان الدولاتي أو ذاك.مع ذلك، فهناك الرأي الآخر الذي لا يمكنه أن يرى في هذه العوامل إلا طريقة نظرية في تفكيك المعطى القومي لكيانية الأمة. فهي جملة خصائص متورطة فيما تكونه من أحوال الصيرورة المجتمعية، ولكن دون ضرورة الاستحواذ المتكافئ على كينونتها. كأنما الأمة جوهر سابق على أعراضه. أو على الأقل فإن جملة الأعراض، يظل تعريفها للجوهر، مُنتقصاً مما لا تعرف عنه بعد. تلك هي إشكالية الإنتماء الإنساني لفطرته المعطاة له ذاتياً، ومباشرة بدون أي توسط تسويغي أو تأويلي؛ فهي الفطرة التي يرى فيها الفكر الماهوي أسبقية منطقية وأنطولوجية معاً على توصيفها. وأما الفكر الوضعي فإنه يحاذر دائماً هذا التمييز المعياري بين أسبقية الفطرة، وتوابعها عن عواملها وخصائصها، بحيث تظل الفطرة عالية ما فوق المحايثة. لكن التاريخ هو صنيعة أحداثه وليس العكس. كذلك فالأمة لا يمكن فصلها عن صيرورتها التاريخية كمجتمعات متغيرة. وعلى هذا ليس ثمة قراءة موضوعية لشخصية الأمة إلا من خلال ما يطرأ عليها من أحوال عواملها الموضوعية بالذات. وبالطبع كان العامل السياسي هو اللافت أكثر من سواه، إذ يعطي للأمة ثمة كياناً مشخصاً لأحداثها العامة. فالوضع السياسي هو المؤشر على مدى التحقق الموضوعي لذاتية الأمة. إنه مقياس الانتماء للعمومية المؤسسة لمشروعية الوجود المجتمعي النظامي على مستوى صناعة الأمة لخياراتها الإنسانية. وهنا يبرز الدور التكويني للوحدة. فالمجتمع الذي يرى في ذاته تماثلاً شبه عضوي يتطلع فورياً إلى بناء النظام السياسي الذي يحول التماثلية الموروثة أو الطبيعية إلى شكل النظام السياسي الإرادوي الجامع بقوة السلطة العمومية. هنالك فوارق نوعية وتاريخية بين التماثلية المتوارثة التي تجد جماعات الأمة أو شعوبها نفسها، أنها تعيش في سياقها حياة يومية متقاربة بظروفها وخواصها فيما بينها، وبين الوحدة المصنوعة أو الإرادوية التي تعكس التماثلية التلقائية للفئات والأفراد إلى شكل الوحدة المدنية للمجال العام، في ظل مصطلح دولة الحق والقانون.في هذه المسافة (بين الحالة التماثلية المعطاة والإرادوية الجمعانية) التي يمكن وصفها بكونها أنطولوجية تاريخية معاً، تعيش مفاهيم الفكر الوحدوي العربي أزماتها المصيرية الكبرى. فالتماثلية تبرز الأمة في تشابه أوضاعها الإيجابية والسلبية. وهي تتميز بشدة واقعيتها المباشرة. مع ذلك لا تزال علومنا الاجتماعية مقصرة في تظهير إشكالياتها. هذا بالرغم من إلحاح حدوسها اليومية على الوجدان الشعبي، وما تبعثه من انشغالات بعض النخب والتنظيمات السياسية، بتداول مفاهيم وتأويلات واصطلاحات وقتية متباينة عنها؛ فالتماثلية هي صورة للواقعين السكوني والحركي معاً بما تقدمه من تواتر عيْن الظاهرات الفردية والاجتماعية والسياسية والثقافية لهذا البحر المتلاطم من مجتمعات الأمة. فلا تكون التعدديات في المناخات العامة، سوى تنويعات متداخلة للهموم والتطلعات اليومية للجموع ومعاناتها المتقاربة حول القضايا الحيوية لإشكاليات التخلف والتقدم، التبعية والتحرر المعرفي والسياسي. ما يمكن قوله، هناك تماثلية الواقع العربي عبر خارطة حدوده، تقدم ثمة وحدةَ أحوال، يمكن وصفها أنثربولوجياً بالوحدة الطبيعية المعطاة المنحدرة هي ذاتها عن بنى تكوينية متقاربة، متوارثة عن حقب تاريخ عضوي وسياسي مشترك في خطوطه التطورية الكبرى. هذه الوحدة الطبيعية التراثية وشبه العضوية تشكل المحصلة التكوينية لواقع إنساني محدد بخصائص، بعضها متأصلة ومتميزة، وأخرى عارضة وحديثة. ولكنها تؤلف في جملتها ما يمكن اعتباره بمثابة الشخصية المفهومية للأمة التي يعرفها الوعي الجمعي عن ذاته. وقد يصطلح على الشخصية المفهومية بالعبارة الإجرائية المتداولة تحت لفظة الهوية، بمدلولها الثقافي السابق على التجنيس القانوني.مقابل هذه التماثلية التي يلاحظها المراقب الخارجي، ويُجْمِلُها بتعيين صفات مورفولوجية ومجتمعية عامة، قد ترتفع إلى مستوى أقانيم ثابتة في عين طلائع الأمة، أي مزايا تختص بها دون أمم أخرى، بصرف النظر عن ضروب أخرى من العلل السلبية، نقول مقابل هذه التماثلية التلقائية لوجود كل أمة في ذاتها، يتشكّل انعكاسَ وعي ثقافي ومجتمعي، ويتطلع الى بناء نمذجة تصورية لوحدة إرادوية، يكون شرطها الأول تحقيق الإطار الحقوقي الجامع لشتات الأمة، وهو الدولة. كأنما الوحدة الطبيعية هي السابقة لوحدة الدولة، والمنشئة كيانها. ففي التصور العام هناك سبق تاريخي ومعرفي معاً لمجرد وجود الأمة كقوم، على إقامة الدولة. وهذا التصور ليس تخييلاً فكروياً. فالتاريخ حافل بتجارب الأمم السابقة على، والساعية إلى وحدتها تحت كنف الدولة الواحدة. هذا فضلاً عن تجارب التوحد والتبعثر المحددة لملامح التاريخ العربي نفسه. وهي تجارب عكست دائماً جدلية التوحد والتبعثر لكيان إنساني جماعي معين، متماثل مع ذاته من حيث وجوده الطبيعي المعطى. لكن التعبير عن هذا الوجود التماثلي طبيعياً محتاج إلى الانعكاس في نوع الوجود الآخر المعبر عن المشروع الثقافي الذي ينبثق من تطلعاته الإنسانية، ويتجاوز معطياته الأولية في آن معاً. ولقد جرى التواضع العلمي على اعتبار أن الدولة هي الإطار الموضوعي الجامع لشتات الكيان الطبيعي، وبالتالي هو الحامل للشكل الحقوقي السياسي الذي عليه القيام بالمهمات المتشابكة حول معيار مركزي متحرك بين قطبين للأمن الفردي الجماعي من ناحية، والأمن الحضاري من ناحية أخرى؛ فالمهمتان متشابكتان، وتردّان على سؤالين متضايفين: كيف توفر الدولة شروط الأمن المادي للمواطنة الحرة الكريمة، وفي الآن عينه، كيف يمكن للمواطنة هذه الارتفاع بالتنظيم العقلاني للعلاقات المجتمعية إلى مستوى مشروع نهضوي يمنح ثمة تجسيداً ثقافياً للشخصية المفهومية التي يعرفها المجتمع عن ذاته كواقع متحرك، وكذلك نحو مثال كلي، يشارك في تحقيق حصة هذا المجتمع من مشروع المدنية الإنسانية الشاملة.
الدول الوحدوية الكبرى الناشئة مع الانقلاب الصناعي في الغرب، أسّست مرجعية الفكر السياسي الحديث والمعاصر. فهي لا تزال تفرض الشكل الأعلى النموذجي المتحكم في الخارطة الجيوسياسية للعالم. إنها عنوان الحراك التاريخي الكوني لمختلف التشكيلات الجمعانية للأمم والحضارات. فالميل الغريزي والطبيعي الدافع للتجمع والاستقواء بالكل من أجل حماية الجزء، لا يزال يوفر أهم أسباب البقاء العضوي والمادي لأول قبيل إنساني في بداية التاريخ، كما هو لأرقى مجتمعات المدنية المعاصرة وأضعفها. بل أن كل تصور عن نظام عالمي، سواء صنعته السياسة الدولية في الماضي، أو تطلعت إليه راهناً ومستقبلاً، إنما يمتح من ذخيرة المعاني والمثل الموصوفة بالكوسموبوليتية، أي بسلطة المدنية الكونية ما فوق تعددية الحضارات المنفتحة على بعضها.فالعصر هو للوحدات القومية والإقليمية والقارية التي لا يزال بعضها يعيق بعضها الآخر، ويخلق التنازعات الدولية؛ في الوقت الذي يمكن تفجير أضيق المجتمعات من داخلها، وتظهير انتماءاتها الفئوية المتغالقة ضد بعضها. ولقد خضعت قطاعات واسعة من جغرافية القطريات العربية إلى هذه الحركية العكسية نحو تَذْرية مجتمعاتها، ضداً على جدلية التكامل النهضوي المفترضة كحامل موضوعي حداثي لاتحادات إقليمية، على درب دولة الحضارة العربية الجديدة.إن نصف قرن ماضٍ على أول تجربة لوحدة عربية بين أهم قطرين عربيين في عصرهما آنذاك، مصر وسورية، كان كافياً لإظهار حقيقتين تَسِمان عودة العرب من ما وراء التاريخ إلى أحد أبرز مسارحه العصرية المتقدمة. حقيقة أن مرحلة التحرر الوطني التي أنتجت عشرين كياناً دولانياً وأكثر، وتكونت في ظلها مجتمعات صارت لها تطوراتها الذاتية الخاصة بها، فإن هذه المرحلة تكاد تستنفد كل إمكانياتها القطرية. فتصل إلى حال من استنقاع مشاكلها الإنسانية والمادية، بدون أية حلول جذرية، تستمدها فقط من قواها الذاتية المحدودة. والحقيقة الثانية هي أن عالمنا العربي غير متروك لشؤونه الخاصة. فهو واقع في بؤرة أخطر الصراعات الاستراتيجية ذات الطبيعة الكونية التي قد يتوقف على بعض عواملها مستقبلُ المدنيةِ الإنسانية كلها. لذلك كان الجهد الأعظم لإمبراطوريات النصف الثاني من القرن العشرين، وما تبقّى منها لبداية القرن الحالي، وفيما يخص العلاقة مع تطورات عالمنا العربي هذا، إنما يتركز في الحيلولة بشتى طرق التدخل دون تمتعه (العالم العربي) بحرية قراره السياسي الوحدوي. في الوقت الذي كانت تحولاته الثورية والانقلابية ترتدّ على أعقابها مخلِّفةً المزيد من أكلاف الهزائم البنيوية في مسيرة النهضة، كان الفكر الوحدوي خلالها يعاني أشكال العزل والكبت والاجهاض الذاتي؛ حتى فقدت الطلائع الواعية كل قدرة على الإمساك ببعض مقاليد الأمور في أقطارها. فلا غرابة إذا كانت الوحدة لم تستطع أن تنشئ لذاتها إلا تجربة وحيدة، أُريد لها أن تكون كتيمة ويتيمة، لا تبعث بعدها على أية تجارب أكثر حرية ونضجاً وقدرة على إحداث بعض المتغيرات التاريخية في مسيرة معكوسة تماماً لكل آمال المستقبل العربي وأجياله.
الدول الوحدوية الكبرى الناشئة مع الانقلاب الصناعي في الغرب، أسّست مرجعية الفكر السياسي الحديث والمعاصر. فهي لا تزال تفرض الشكل الأعلى النموذجي المتحكم في الخارطة الجيوسياسية للعالم. إنها عنوان الحراك التاريخي الكوني لمختلف التشكيلات الجمعانية للأمم والحضارات. فالميل الغريزي والطبيعي الدافع للتجمع والاستقواء بالكل من أجل حماية الجزء، لا يزال يوفر أهم أسباب البقاء العضوي والمادي لأول قبيل إنساني في بداية التاريخ، كما هو لأرقى مجتمعات المدنية المعاصرة وأضعفها. بل أن كل تصور عن نظام عالمي، سواء صنعته السياسة الدولية في الماضي، أو تطلعت إليه راهناً ومستقبلاً، إنما يمتح من ذخيرة المعاني والمثل الموصوفة بالكوسموبوليتية، أي بسلطة المدنية الكونية ما فوق تعددية الحضارات المنفتحة على بعضها.فالعصر هو للوحدات القومية والإقليمية والقارية التي لا يزال بعضها يعيق بعضها الآخر، ويخلق التنازعات الدولية؛ في الوقت الذي يمكن تفجير أضيق المجتمعات من داخلها، وتظهير انتماءاتها الفئوية المتغالقة ضد بعضها. ولقد خضعت قطاعات واسعة من جغرافية القطريات العربية إلى هذه الحركية العكسية نحو تَذْرية مجتمعاتها، ضداً على جدلية التكامل النهضوي المفترضة كحامل موضوعي حداثي لاتحادات إقليمية، على درب دولة الحضارة العربية الجديدة.إن نصف قرن ماضٍ على أول تجربة لوحدة عربية بين أهم قطرين عربيين في عصرهما آنذاك، مصر وسورية، كان كافياً لإظهار حقيقتين تَسِمان عودة العرب من ما وراء التاريخ إلى أحد أبرز مسارحه العصرية المتقدمة. حقيقة أن مرحلة التحرر الوطني التي أنتجت عشرين كياناً دولانياً وأكثر، وتكونت في ظلها مجتمعات صارت لها تطوراتها الذاتية الخاصة بها، فإن هذه المرحلة تكاد تستنفد كل إمكانياتها القطرية. فتصل إلى حال من استنقاع مشاكلها الإنسانية والمادية، بدون أية حلول جذرية، تستمدها فقط من قواها الذاتية المحدودة. والحقيقة الثانية هي أن عالمنا العربي غير متروك لشؤونه الخاصة. فهو واقع في بؤرة أخطر الصراعات الاستراتيجية ذات الطبيعة الكونية التي قد يتوقف على بعض عواملها مستقبلُ المدنيةِ الإنسانية كلها. لذلك كان الجهد الأعظم لإمبراطوريات النصف الثاني من القرن العشرين، وما تبقّى منها لبداية القرن الحالي، وفيما يخص العلاقة مع تطورات عالمنا العربي هذا، إنما يتركز في الحيلولة بشتى طرق التدخل دون تمتعه (العالم العربي) بحرية قراره السياسي الوحدوي. في الوقت الذي كانت تحولاته الثورية والانقلابية ترتدّ على أعقابها مخلِّفةً المزيد من أكلاف الهزائم البنيوية في مسيرة النهضة، كان الفكر الوحدوي خلالها يعاني أشكال العزل والكبت والاجهاض الذاتي؛ حتى فقدت الطلائع الواعية كل قدرة على الإمساك ببعض مقاليد الأمور في أقطارها. فلا غرابة إذا كانت الوحدة لم تستطع أن تنشئ لذاتها إلا تجربة وحيدة، أُريد لها أن تكون كتيمة ويتيمة، لا تبعث بعدها على أية تجارب أكثر حرية ونضجاً وقدرة على إحداث بعض المتغيرات التاريخية في مسيرة معكوسة تماماً لكل آمال المستقبل العربي وأجياله.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق