لم يفاجئ بينيدكت السادس عشر، بابا الكنيسة الكاثوليكية في روما، بقول ما قال بشأن العلاقة مع اليهود واليهودية، وبما سكت عن قوله رغم وجوبه بشأن عدالة قضية فلسطين ومأساوية ما يُرتكب إسرائيليا وإقليميا ودوليا بصددها، سوى الذين كانوا يعلقون أهمية خاصة على زيارته، وينتظرون منه ما لم يكن ينبغي انتظاره، فليست سياساته وسياسات الفاتيكان جديدة، سواء وضعها تحت عنوان حجة دينية، أو محاضرة جامعية، أو تصريحات رسمية.
ولا ينبغي ابتداءً أن يُنتظر منه انحرافا عن هذه السياسات لصالح الحق والعدالة بفلسطين، وإن كان كثير من التمنيات المشروعة بهذا الصدد يصدر عن العلاقة بالمسيحيين في المنطقة عموما، وفي فلسطين تخصيصا؛ فهؤلاء شركاء المسلمين فيما وقع بحقهم وحق فلسطين من مظالم تاريخية ما تزال مستمرة، علاوة على أن كثيرا من الكنائس المسيحية المحلية بفلسطين والإقليمية في المنطقة، لا تجد من الفاتيكان وكنيستها الكاثوليكية معاملة الأنداد، بل قد تصل بعض الخصومات الدينية معها إلى درجة العداء.
حجة سياسية استعراضية
أول ما يلاحظ على جولة البابا الكاثوليكي ومحادثاته في المنطقة أنه حاول كثيرا أن يعطيها من الناحية الرسمية الشكلية صبغة "رحلة حج بابوبة"، إنما كانت من بدايتها وبمختلف محطاتها ومحتوياتها رحلة سياسية بامتياز. ولم تكن من الأصل رحلة تستهدف الإسهام في قضية فلسطين في اتجاه يبرز عنصر العدالة الإنسانية، وما تدعو القيم الدينية السماوية إليه، هذا رغم وجود سلسلة من العوامل تستدعي ذلك وتفرض تعامل الفاتيكان معه، ومنها:
1- الحرب العدوانية على قطاع غزة وما أثارته عالميا على المستويات الشعبية، بما في ذلك شعوب القارة الأوروبية بغالبيتها المسيحية؛ مما وصل أثره إلى بعض أوساط الإعلام رغم انحيازه القديم والجديد.
2- استمرار أبشع ألوان الحصار الإجرامي حول القطاع إلى درجة تدفع المزيد من الجهات المسيحية وحتى اليهودية في أوروبا والعالم الغربي إلى اتخاذ مبادرات شعبية لخرقه بما يتاح من وسائل محدودة.
3- ازدياد التطرف اليميني في تشكيلة الحكومة الإسرائيلية الجديدة، إلى درجة جعلت كثيرا من الحكومات الغربية نفسها تسعى ولو شكليا إلى التشبث بالمواقف التي كانت تتشبث بها تحت عناوين حل الدولتين وما شابه ذلك، بغض النظر عن عدم تلبيته لعدالة القضية ومشروعيتها التاريخية.
4- تعرّض المسيحيين وكنائسهم في القدس وفي فلسطين عموما إلى شبيه ما يتعرض له المسلمون، اضطهادا وتشريدا، مع ألوان من الضغوط التي لا مثيل لها في أي مكان من العالم كالحصار اليومي في قلب المدن والقرى عبر مئات الحواجز التعسفية، والإبعاد عن مواطن السكن الأصلية، وهدم المنازل، والفصل ما بين العوائل بالجدار العنصري، وغير ذلك فضلا عن الإجراءات القسرية العدوانية التي كان من بين نتائجها تخفيض نسبة المسيحيين أيضا، في القدس وفي عموم فلسطين تخفيضا كبيرا بالمقارنة مع ما كان عليه حالهم قبل النكبة الأولى.
5- سقوط المحافظين الجدد ممن تلاقت وجهات نظر بينديكت السادس عشر مع رؤاهم الدينية وسياساتهم المنبثقة عنها، على أمل أن يكون للكنيسة في أوروبا تأثير مشابه على صناعة القرار السياسي.
6- وصول مأساوية الأوضاع الإنسانية إلى مستويات غير مسبوقة، بينما تعتبر الكنيسة الكاثوليكية نفسها النصير الأول في حالات مشابهة ولو بدرجات أدنى على الصعيد الإنساني.
سياسة بابوبة منحازة
جميع ذلك لم يكن كافيا لتصدر عن البابا الكاثوليكي مواقف تعبر بصورة ما لو صدرت عن مصداقية الفاتيكان فيما تراه لنفسها من دور في العالم المعاصر، بغض النظر عن أن قضية فلسطين لا تكسب ولا تخسر كثيرا بالضرورة من خلال تلك المصداقية؛ فعدالتها تجمع المسلمين والمسيحيين في المنطقة على أرضية مشتركة، وإن اختلف الطرفان عقديا بطبيعة الحال.
الذين عبروا عن "خيبة أمل" انطلقوا ابتداءً من "أمل" في غير مكانه، فجولة البابا السياسية الأخيرة، كانت من البداية لأهداف أخرى لا علاقة لها بالقضية وعدالتها، وإنما بالتطور التاريخي للعلاقة الدينية والسياسية بين الفاتيكان واليهود عموما، وهو ما يشمل الإسرائيليين أو الصهيونيين من منظور الكنيسة الكاثوليكية، سيان ما يصنعون!
وبغض النظر عن حجم التأثير اليهودي أو الصهيوني على قرارات الفاتيكان وسياساته واتجاهاته المختلفة، بما فيها الدينية المحضة، يبقى معروفا أن تطور مواقف الفاتيكان اتخذ مسارا واضحا منذ زمن بعيد، ولا سيما بعد ما عُرف بوثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح -عليه الصلاة والسلام- وتعديل نصوص الصلوات الكنسية تبعا لذلك مع إلغاء سائر العبارات الإنجيلية ذات العلاقة. ومع وصول بينديكت السادس عشر، إلى منصب البابوية الكاثوليكية في روما، دخل تطور هذه المسيرة للعلاقة الثنائية مرحلة جديدة، أهم عناصرها استغلال أصله الألماني في الجهود التي لا تنقطع منذ ستين سنة، على صعيد توظيف جرائم النازية بحق يهود أوروبا لأغراض سياسية تتجاوز حدود ما يسمى مكافحة اللاسامية، ويُقصد بها في الأصل مكافحة التمييز ضد اليهود من حيث أنهم يهود، ليصل ذلك إلى مكافحة انتقاد السياسات والممارسات العدوانية الصهيونية والإسرائيلية ضد أهل فلسطين والمنطقة من حولها.
لقد كان الغرض من "الحجة السياسية" من البداية تسجيل مواقف كنسية فاتيكانية جديدة على هذا الصعيد، وقد تقرر مضمونها وأسلوب التعبير عنها من قبل أن تبدأ الجولة، وجرى تنفيذ ذلك بحذافيره، بغض النظر عن مختلف العوامل الأخرى ذات العلاقة بقضية فلسطين، وبمستقبل الأرض التي توصف بحق أنها مهد الديانات التي تجمع على ترابها بين كنيستي المهد والقيامة وسواهما والمسجد الأقصى المبارك ومسجد الخليل الإبراهيمي وسواهما، وكانت قبل النكبة نموذجا تاريخيا لحفاظ المسلمين على أمانتهم تجاه أصحاب المعتقدات الدينية الأخرى.
دبلوماسية عوراء
ما قد يؤخذ على البابا الكاثوليكي عند من لا يعرف نشأته وتوجهاته وسيرته أنه اتبع في التعبير عما يريد أسلوبا استفزازيا يفتقر حتى إلى الاعتبارات الدبلوماسية، ومن الأمثلة على ذلك:
1- اختيار أرض الأردن للشروع في الإدلاء بتصريحاته المقررة سلفا على صعيد علاقة كنيسته باليهود واليهودية.
2- واختيار كلمته في المسجد الذي التقى فيه بعمُان مع بعض العلماء المسلمين ليعلن موقفا يكرر فيه واقعيا ما عُرف عنه من مواقفه المرفوضة تجاه الإسلام، وإن وضع ذلك في قالب دعوة إلى عدم استغلال الدين.
3- ثم أن يكون في ضيافة الفلسطينيين أو على وجه الدقة في ضيافة السلطة في الضفة الغربية ليعلن مطالبته بعدم اللجوء إلى العنف، كما لو كانت السلطة أو كانت أي جهة فلسطينية أخرى هي التي تمزيف الأرض بالحواجز والجدران العنصرية، وترسل الطائرات في اعتداءات متوالية، وتصادر المنازل وتهدمها، وتحرق الحقول وتتلف محاصيلها، وتمارس الاعتقالات في صفوف الإسرائيليين وتملأ السجون بالنساء والأطفال والشباب والشيوخ!..
تحرير السياسة من الانحراف
ولكن هل يلام بينيديكت السادس عشر على ديبلوماسيته العوراء هذه؟..
إن الإعداد لمثل هذه الزيارات يجري بالتواصل بين من يمثلون الضيف الأجنبي ومن يمثلون البلد المضيف، فما الذي تم إعداده مع حكومة الأردن والسلطة في الضفة الغربية؟..
وإذا كانت الزيارات السياسية من هذا القبيل تتضمن التعبير عن مواقف ومطالب ما، قد لا ترضي المضيف دوما، فعلى افتراض أن الطرف المضيف لم يكن ينتظر ذلك من البابا الكاثوليكي، فأين المواقف والمطالب التي كان من المفروض أن تصدر عن الطرف المضيف، ولو في صيغة ردود دبلوماسية الصياغة، وإن كانت لا ترضي الضيف الأجنبي؟..
لئن تجاوز البابا الكاثوليكي ما يقول بصدده أنه في "حجة دينية" فأدلى بما أدلى به من مواقف سياسية، فما الذي يسوّغ للمضيفين الامتناع عن بيان مواقف قويمة قوية تتجاوب مع المطالب الصادرة عن جهات عديدة، إسلامية ومسيحية؟..
أما أن يكون من بين مواقف البابا الكاثوليكي أثناء الجولة تأييده لما يسمى حل الدولتين وأن هذا لم يكن مرضيا للطرف الإسرائيلي بعد مزيد من التطرف في تشكيلة حكومته الحالية، فقد يفسر رضى المسئولين السياسيين الذين ما زالوا يتشبثون بمتاهات خارطة الطريق وأوهام أنابوليس بعد أن أفنتها الاعتداءات الإسرائيلية عن بكرة أبيها، ولكن يستحيل أن يجد قبولا على مستوى شعب فلسطين، وشعوب المنطقة، من المسلمين والمسيحيين على السواء.
ثم إن هذا الموقف على ضحالة مضمونه مهما جرى تصويره إيجابيا، لم يتجاوز أن يكون جزءا جانبيا مما تضمنته الجولة من مواقف معبرة عن نهج الفاتيكان في عهد بينديكت السادس عشر، وهو النهج الذي بدأ بمواقف الإساءة للإسلام والمسلمين، وما زال مستمرا على ذلك ولن يتبدل دون أن يحدث التبدل على المستوى الرسمي تجاه الفاتيكان، وليس على صعيد الرفض الشعبي المطلق وعلى صعيد المواقف الرافضة من جانب الجهات الإسلامية المعتبرة.
تحرير الأديان من الاستغلال
على أن جولة البابا الكاثوليكي برمّتها، ومع كل ما ينبني عليها من نتائج، لا تبدل ولا تغير شيئا يستحق الذكر أو الاهتمام في مجرى قضية فلسطين، وتبقى مجرد جزء من الممارسات السياسية لدولة الفاتيكان، وتبقى دولة الفاتيكان جزءا من السياسات الغربية في المنطقة، وعند متابعة الجولة بهذا المنظور ومتابعة التعامل الرسمي وغير الرسمي معها، يمكن استيعاب حقيقة موقعها وأبعادها من خارطة مجرى الأحداث والتطورات الحالية، ويمكن إدراك أن حجمها الحقيقي لا يستدعي ربطها بأمل وخيبة أمل، بل يستدعي مواصلة العمل على نشر ثقافة المقاومة في مواجهة العدوان المتواصل، كما يقتضيه فهم الرسالات السماوية فهما قويما، وعلى نشر ثقافة التسامح بين الأديان وتحريرها ممن يستغل الأديان لأغراض سياسية عدوانية. إن قضية فلسطين أكبر حجما وأعمق تاريخا وأبعد مستقبلا من مواقف بينديكت السادس عشر وسياساته.. وإن بيت المقدس أعظم شأنا وأرسخ مكانة وأعظم صمودا من دولة الفاتيكان وما تملك من تأثير.. وإن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في الأرض المباركة وما حولها، أوسع بما لا يقاس من التحركات الرسمية وشبه الرسمية بمشاركة الفاتيكان ودون مشاركتها.
وإن تلاقي الجهود في القدس وبيت لحم، وفي الخليل والناصرة، وفي الضفة والقطاع، وفي كل منطقة من فلسطين وخارجها، هو الذي سيحدد مستقبل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، والذي يمكن أن يفتح أبواب العمل على تحقيق ما تقتضيه عدالة القضية، ومشروعيتها التاريخية، وعلى إقرار الحق والتسامح وإزهاق الباطل ودحر العدوان، سيان ما الراية التي يرفعها والمواقع التي ينطلق منها والجهات التي يجد دعمها ويتعاون معها.
ولا ينبغي ابتداءً أن يُنتظر منه انحرافا عن هذه السياسات لصالح الحق والعدالة بفلسطين، وإن كان كثير من التمنيات المشروعة بهذا الصدد يصدر عن العلاقة بالمسيحيين في المنطقة عموما، وفي فلسطين تخصيصا؛ فهؤلاء شركاء المسلمين فيما وقع بحقهم وحق فلسطين من مظالم تاريخية ما تزال مستمرة، علاوة على أن كثيرا من الكنائس المسيحية المحلية بفلسطين والإقليمية في المنطقة، لا تجد من الفاتيكان وكنيستها الكاثوليكية معاملة الأنداد، بل قد تصل بعض الخصومات الدينية معها إلى درجة العداء.
حجة سياسية استعراضية
أول ما يلاحظ على جولة البابا الكاثوليكي ومحادثاته في المنطقة أنه حاول كثيرا أن يعطيها من الناحية الرسمية الشكلية صبغة "رحلة حج بابوبة"، إنما كانت من بدايتها وبمختلف محطاتها ومحتوياتها رحلة سياسية بامتياز. ولم تكن من الأصل رحلة تستهدف الإسهام في قضية فلسطين في اتجاه يبرز عنصر العدالة الإنسانية، وما تدعو القيم الدينية السماوية إليه، هذا رغم وجود سلسلة من العوامل تستدعي ذلك وتفرض تعامل الفاتيكان معه، ومنها:
1- الحرب العدوانية على قطاع غزة وما أثارته عالميا على المستويات الشعبية، بما في ذلك شعوب القارة الأوروبية بغالبيتها المسيحية؛ مما وصل أثره إلى بعض أوساط الإعلام رغم انحيازه القديم والجديد.
2- استمرار أبشع ألوان الحصار الإجرامي حول القطاع إلى درجة تدفع المزيد من الجهات المسيحية وحتى اليهودية في أوروبا والعالم الغربي إلى اتخاذ مبادرات شعبية لخرقه بما يتاح من وسائل محدودة.
3- ازدياد التطرف اليميني في تشكيلة الحكومة الإسرائيلية الجديدة، إلى درجة جعلت كثيرا من الحكومات الغربية نفسها تسعى ولو شكليا إلى التشبث بالمواقف التي كانت تتشبث بها تحت عناوين حل الدولتين وما شابه ذلك، بغض النظر عن عدم تلبيته لعدالة القضية ومشروعيتها التاريخية.
4- تعرّض المسيحيين وكنائسهم في القدس وفي فلسطين عموما إلى شبيه ما يتعرض له المسلمون، اضطهادا وتشريدا، مع ألوان من الضغوط التي لا مثيل لها في أي مكان من العالم كالحصار اليومي في قلب المدن والقرى عبر مئات الحواجز التعسفية، والإبعاد عن مواطن السكن الأصلية، وهدم المنازل، والفصل ما بين العوائل بالجدار العنصري، وغير ذلك فضلا عن الإجراءات القسرية العدوانية التي كان من بين نتائجها تخفيض نسبة المسيحيين أيضا، في القدس وفي عموم فلسطين تخفيضا كبيرا بالمقارنة مع ما كان عليه حالهم قبل النكبة الأولى.
5- سقوط المحافظين الجدد ممن تلاقت وجهات نظر بينديكت السادس عشر مع رؤاهم الدينية وسياساتهم المنبثقة عنها، على أمل أن يكون للكنيسة في أوروبا تأثير مشابه على صناعة القرار السياسي.
6- وصول مأساوية الأوضاع الإنسانية إلى مستويات غير مسبوقة، بينما تعتبر الكنيسة الكاثوليكية نفسها النصير الأول في حالات مشابهة ولو بدرجات أدنى على الصعيد الإنساني.
سياسة بابوبة منحازة
جميع ذلك لم يكن كافيا لتصدر عن البابا الكاثوليكي مواقف تعبر بصورة ما لو صدرت عن مصداقية الفاتيكان فيما تراه لنفسها من دور في العالم المعاصر، بغض النظر عن أن قضية فلسطين لا تكسب ولا تخسر كثيرا بالضرورة من خلال تلك المصداقية؛ فعدالتها تجمع المسلمين والمسيحيين في المنطقة على أرضية مشتركة، وإن اختلف الطرفان عقديا بطبيعة الحال.
الذين عبروا عن "خيبة أمل" انطلقوا ابتداءً من "أمل" في غير مكانه، فجولة البابا السياسية الأخيرة، كانت من البداية لأهداف أخرى لا علاقة لها بالقضية وعدالتها، وإنما بالتطور التاريخي للعلاقة الدينية والسياسية بين الفاتيكان واليهود عموما، وهو ما يشمل الإسرائيليين أو الصهيونيين من منظور الكنيسة الكاثوليكية، سيان ما يصنعون!
وبغض النظر عن حجم التأثير اليهودي أو الصهيوني على قرارات الفاتيكان وسياساته واتجاهاته المختلفة، بما فيها الدينية المحضة، يبقى معروفا أن تطور مواقف الفاتيكان اتخذ مسارا واضحا منذ زمن بعيد، ولا سيما بعد ما عُرف بوثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح -عليه الصلاة والسلام- وتعديل نصوص الصلوات الكنسية تبعا لذلك مع إلغاء سائر العبارات الإنجيلية ذات العلاقة. ومع وصول بينديكت السادس عشر، إلى منصب البابوية الكاثوليكية في روما، دخل تطور هذه المسيرة للعلاقة الثنائية مرحلة جديدة، أهم عناصرها استغلال أصله الألماني في الجهود التي لا تنقطع منذ ستين سنة، على صعيد توظيف جرائم النازية بحق يهود أوروبا لأغراض سياسية تتجاوز حدود ما يسمى مكافحة اللاسامية، ويُقصد بها في الأصل مكافحة التمييز ضد اليهود من حيث أنهم يهود، ليصل ذلك إلى مكافحة انتقاد السياسات والممارسات العدوانية الصهيونية والإسرائيلية ضد أهل فلسطين والمنطقة من حولها.
لقد كان الغرض من "الحجة السياسية" من البداية تسجيل مواقف كنسية فاتيكانية جديدة على هذا الصعيد، وقد تقرر مضمونها وأسلوب التعبير عنها من قبل أن تبدأ الجولة، وجرى تنفيذ ذلك بحذافيره، بغض النظر عن مختلف العوامل الأخرى ذات العلاقة بقضية فلسطين، وبمستقبل الأرض التي توصف بحق أنها مهد الديانات التي تجمع على ترابها بين كنيستي المهد والقيامة وسواهما والمسجد الأقصى المبارك ومسجد الخليل الإبراهيمي وسواهما، وكانت قبل النكبة نموذجا تاريخيا لحفاظ المسلمين على أمانتهم تجاه أصحاب المعتقدات الدينية الأخرى.
دبلوماسية عوراء
ما قد يؤخذ على البابا الكاثوليكي عند من لا يعرف نشأته وتوجهاته وسيرته أنه اتبع في التعبير عما يريد أسلوبا استفزازيا يفتقر حتى إلى الاعتبارات الدبلوماسية، ومن الأمثلة على ذلك:
1- اختيار أرض الأردن للشروع في الإدلاء بتصريحاته المقررة سلفا على صعيد علاقة كنيسته باليهود واليهودية.
2- واختيار كلمته في المسجد الذي التقى فيه بعمُان مع بعض العلماء المسلمين ليعلن موقفا يكرر فيه واقعيا ما عُرف عنه من مواقفه المرفوضة تجاه الإسلام، وإن وضع ذلك في قالب دعوة إلى عدم استغلال الدين.
3- ثم أن يكون في ضيافة الفلسطينيين أو على وجه الدقة في ضيافة السلطة في الضفة الغربية ليعلن مطالبته بعدم اللجوء إلى العنف، كما لو كانت السلطة أو كانت أي جهة فلسطينية أخرى هي التي تمزيف الأرض بالحواجز والجدران العنصرية، وترسل الطائرات في اعتداءات متوالية، وتصادر المنازل وتهدمها، وتحرق الحقول وتتلف محاصيلها، وتمارس الاعتقالات في صفوف الإسرائيليين وتملأ السجون بالنساء والأطفال والشباب والشيوخ!..
تحرير السياسة من الانحراف
ولكن هل يلام بينيديكت السادس عشر على ديبلوماسيته العوراء هذه؟..
إن الإعداد لمثل هذه الزيارات يجري بالتواصل بين من يمثلون الضيف الأجنبي ومن يمثلون البلد المضيف، فما الذي تم إعداده مع حكومة الأردن والسلطة في الضفة الغربية؟..
وإذا كانت الزيارات السياسية من هذا القبيل تتضمن التعبير عن مواقف ومطالب ما، قد لا ترضي المضيف دوما، فعلى افتراض أن الطرف المضيف لم يكن ينتظر ذلك من البابا الكاثوليكي، فأين المواقف والمطالب التي كان من المفروض أن تصدر عن الطرف المضيف، ولو في صيغة ردود دبلوماسية الصياغة، وإن كانت لا ترضي الضيف الأجنبي؟..
لئن تجاوز البابا الكاثوليكي ما يقول بصدده أنه في "حجة دينية" فأدلى بما أدلى به من مواقف سياسية، فما الذي يسوّغ للمضيفين الامتناع عن بيان مواقف قويمة قوية تتجاوب مع المطالب الصادرة عن جهات عديدة، إسلامية ومسيحية؟..
أما أن يكون من بين مواقف البابا الكاثوليكي أثناء الجولة تأييده لما يسمى حل الدولتين وأن هذا لم يكن مرضيا للطرف الإسرائيلي بعد مزيد من التطرف في تشكيلة حكومته الحالية، فقد يفسر رضى المسئولين السياسيين الذين ما زالوا يتشبثون بمتاهات خارطة الطريق وأوهام أنابوليس بعد أن أفنتها الاعتداءات الإسرائيلية عن بكرة أبيها، ولكن يستحيل أن يجد قبولا على مستوى شعب فلسطين، وشعوب المنطقة، من المسلمين والمسيحيين على السواء.
ثم إن هذا الموقف على ضحالة مضمونه مهما جرى تصويره إيجابيا، لم يتجاوز أن يكون جزءا جانبيا مما تضمنته الجولة من مواقف معبرة عن نهج الفاتيكان في عهد بينديكت السادس عشر، وهو النهج الذي بدأ بمواقف الإساءة للإسلام والمسلمين، وما زال مستمرا على ذلك ولن يتبدل دون أن يحدث التبدل على المستوى الرسمي تجاه الفاتيكان، وليس على صعيد الرفض الشعبي المطلق وعلى صعيد المواقف الرافضة من جانب الجهات الإسلامية المعتبرة.
تحرير الأديان من الاستغلال
على أن جولة البابا الكاثوليكي برمّتها، ومع كل ما ينبني عليها من نتائج، لا تبدل ولا تغير شيئا يستحق الذكر أو الاهتمام في مجرى قضية فلسطين، وتبقى مجرد جزء من الممارسات السياسية لدولة الفاتيكان، وتبقى دولة الفاتيكان جزءا من السياسات الغربية في المنطقة، وعند متابعة الجولة بهذا المنظور ومتابعة التعامل الرسمي وغير الرسمي معها، يمكن استيعاب حقيقة موقعها وأبعادها من خارطة مجرى الأحداث والتطورات الحالية، ويمكن إدراك أن حجمها الحقيقي لا يستدعي ربطها بأمل وخيبة أمل، بل يستدعي مواصلة العمل على نشر ثقافة المقاومة في مواجهة العدوان المتواصل، كما يقتضيه فهم الرسالات السماوية فهما قويما، وعلى نشر ثقافة التسامح بين الأديان وتحريرها ممن يستغل الأديان لأغراض سياسية عدوانية. إن قضية فلسطين أكبر حجما وأعمق تاريخا وأبعد مستقبلا من مواقف بينديكت السادس عشر وسياساته.. وإن بيت المقدس أعظم شأنا وأرسخ مكانة وأعظم صمودا من دولة الفاتيكان وما تملك من تأثير.. وإن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في الأرض المباركة وما حولها، أوسع بما لا يقاس من التحركات الرسمية وشبه الرسمية بمشاركة الفاتيكان ودون مشاركتها.
وإن تلاقي الجهود في القدس وبيت لحم، وفي الخليل والناصرة، وفي الضفة والقطاع، وفي كل منطقة من فلسطين وخارجها، هو الذي سيحدد مستقبل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، والذي يمكن أن يفتح أبواب العمل على تحقيق ما تقتضيه عدالة القضية، ومشروعيتها التاريخية، وعلى إقرار الحق والتسامح وإزهاق الباطل ودحر العدوان، سيان ما الراية التي يرفعها والمواقع التي ينطلق منها والجهات التي يجد دعمها ويتعاون معها.
__________
نبيل شبيب
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق