اقترح الفيلسوف الفرسي ارنست رنيان التعريف التالي للأمة:”انها مجموعة من الناس إتحدت وفق وجهة نظر خاطئة في ما يتعلق بماضيها. ثم قامت على اساس كراهية جيرانها”.
وهذا التعريف ينطبق اكثر ما ينطبق على الامم التي تحيط الشكوك بتاريخها وعلى الاخص تلك التي تعاني قطيعة تاريخية قابلة لسد فراغها بالاساطير والروايات غير الدقيقة اذا لم نقل الكاذبة او المصطنعة. لكن هذا التعريف غير قابل للاعتماد في حالة الامة الفاقدة لتاريخها كما هي الحال في الولايات المتحدة. كما انه بعيد كل البعد عن التطبيق في حالة الأمة صاحبة التراث الذي لا يقبل التشكيك وان كان يحتمل قراءات متعددة.
وبالعودة الى الأمة القائمةعلى تاريخ من الاساطير نجد انها تضطر لاجراء مراجعات دورية لهذه الاساطير. وذلك انطلاقاً من مبدأ: انك قد تضلل بعض الناس كل الوقت وقد تضلل كل الناس بعض الوقت لكنك لن تتوصل الى تضليل كل الناس كل الوقت!.
من هذا المنطلق كان لحركة المؤرخين الإسرائيليين الجدد دوراً حيوياً في عملية اعادة تنظيم التاريخ اليهود ي الذي بدا يتهاوى ويترنح امام المكتشفات الاركيولوجية الحديثة. التي يتجاهلها اليهود الاصوليون في اصرار غير متبصر بالعواقب على الاساطير. اما العلمانيون اليهود فهم اكثر تبصراً واستشرافاً للمستقبل. فهؤلاء يدركون بأن الايمان الديني يحتمل الاساطير وينأى بها عن المناقشة العلمية ـ الجدلية. وهو ما لا تحتمله الاساطير السياسية. لذلك شجع هؤلاء اليهود الحركة التي عرفت باسم “المؤرخين الجدد”. حتى ان رابين اوكل الىلجنة منها وضع كتب تنقض اساطير الصهيونية السياسية لتدريسها في المدارس. وتابعت هذه اللجنة عملها طيلة خمسة سنوات اصدرت في نهايتها مجموعة كتب منها كتاب المؤرخ الاسرائيلي الجديد “بيني موريس” المعنون بـ:” ضحايا الحق ـ تاريخ الصراع الصهيوني ـ العربي (1881 ـ 1999)”. والعام 1881 هو عام تأسيس اول مستعمرة صهيونية وهي مستعمرة “رأس صهيون” (رشون لوزيون) التي اسسها مهاجرون روس.
وبيني موريس من المؤرخين المعروفين وسبق له اصدار كتاب بعنوان مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين (1947 ـ 1949) والصادر عام (1988). والمؤلف هو استاذ التاريخ في جامعة بن غوريون. وهو معروف بموضوعيته وبقراءاته المتجردة للتاريخ. فهل كان كذلك في هذا الكتاب؟
والكتاب يحمل بالانجليزية العنوان التالي:Righteous victims:
A History of the zionist – Arab conflict , 1881 – 1999
Benny Morris.
وبالرغم من اننا، نحن العرب، نقرأ هذه الكتابات باعتبارها كتابات تبريرية هدفها تحويل المجرم الى “شاهد ملك” فاننا لا نستطيع ان نتجاهل تميز موريس واختلافه عن معظم رفاقه في الحركة. اذ انه يقدم فعلاً مقاطع طويلة محايدة في قراءاته التاريخية التي يتضمنها هذا الكتاب. وهو يوفق بامتياز في اقامته المقارنة بين ثورة (1936 ـ 1939) الفلسطينية وبين الانتفاضة الفلسطينية (1987 ـ 1993). وهو يرى بينهما تشابهاً يدعونا الى طرح العديد من الاسئلة. الا أن الأهم في هذه المقارنة هو ايحاء المؤلف بقيام ثورات فلسطينية دورية (ولو كل 50 سنة) لا يحول التفوق العسكري الاسرائيلي دون اندلاعها. وهذه الثورات انما تستمد اهميتها من كونها داخلية اي مهددة لليهود مباشرة. وهو تهديد يثير ذعرهم اكثر من العمليات الخارجية.
ويعود المؤلف لمناقشة اساليب المهاجرين اليهود في استملاك الاراضي الفلسطينية ويؤرخ الصدامات الفلسطينية الصهيونية بدءاً بثورة (1939) مروراً بحرب فلسطين (1948) حيث يتوقف ليصف الممارسات الارهابية ضد السكان العرب والاعمال الوحشية المقترفة بحقهم اضافة لاعتماد اساليب الحرب النفسية والحيل والاكاذيب الهادفة لتهجير اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. وإجبارهم على النزوح من اراضيهم. وهذه الروايات تتناقض مع الادعاءات الصهيونية القائلة بان الدول العربية هي التي دعت الفلسطينيين للنزوح المؤقت ريثما تقضي على اليهود. ويتابع موريس مستعرضاً حروب (1956) و(1967) وحرب الاستنزاف وحرب (1973) وحرب لبنان (1982 ـ 1985) ـ اي الاجتياح وصولاً الى الانتفاضة واتفاقية أوسلو والسيرورات المتفرعة عنها.
وبذلك يكون المؤلف قد وضع حجر الاساس لقراءة حديثة ومخالفة لتاريخ الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. الا ان هذه القراءة لا تخلو من بعض نقاط الضعف التي قد تدعم حيادية موريس او تنقضها تبعاً للوثائق التي سيفرج عنها لاحقاً. ومن نقاط ضعف موريس نذكر:
أ ـ انه يحمل اسرائيل مسؤولية تهجير الفلسطينيين. لكنه لا يعتبر ان ذلك حصل وفق خطة مدروسة وموضوعة مسبقاً كما يؤكد على ذلك أفي شليم. الذي يضيف بأن الخطة كانت موضوعة بالاتفاق مع الملك عبدالله.في حين يصر موريس على ان هذا التهجير قد حصل بصورة عشوائية بل وبدعم من زعماء محليين.
كما يعارض موريس في ذلك المؤرخ الجديد سيمحا فلابن الذي يؤكد على وجود خطة متكاملة لتهجير الفلسطينيين الى الدول العربية.
ب ـ انه يكرر معلومات كان قد اوردها في كتبه السابقة منها حصره مسؤولية التهجير بنسبة55% للهاغاناه ولمذبحة دير ياسين.في حين يعتبر مؤرخون آخرون ان هذه النسبة هي 100% وهي نتيجة خطة مدروسة كما اسلفنا.
ج ـ بناءً على مـا تقدم فان موريس يكتفي بالتلميح الى وجود آثار لحركة الترانسفير على السلوك الصهيوني. ليتراجع عنه بالقاء عاتق التهجير على اعمال الحرب العشوائية. ويعارضه في ذلك نعوم تشومسكي الذي يؤكد على إستمرارية اعتماد اسرائيل لمبدا الترانسفير. وهو يصر على ذلك في كتاباته وخصوصاً في كتابه “قراصنة وأباطرة”.
وبالرغم من هذه النقاط وغيرها فان بيني موريس يعتبر بحق طليعة المؤرخين الاسرائيليين الجدد. ويعده البعض اهمهم على الاطلاق. ومن هنا كان تركيز الهجوم عليه من قبل افراييم كارش، المعادي لحركة المؤرخين الجدد، في كتابه:” فبركة التاريخ الاسرائيلي ـ المؤرخون الجدد”. ليعود فيوجه اليه تهماً تخرجه من دائرة المؤرخين اذ يتهمه بـ:1 ـ سوء التفسير و2 ـ الاقتباس المجتزأ و3 ـ عدم الاشارة الى البراهين و4 ـ الوصول الى تأكيدات خاطئة و5 ـ اعادة كتابة الوثائق الاصلية (اي التحريف).
وهذه التهم استثارت ردود فعل موريس وكانت إيذاناً ببداية جدل محتدم بينهما. ولعلنا نجد في هذا الجدال مدخلاً للتعرف الى نقاط الضعف والقوة في حركة المؤرخين الجدد واسباب قبول ورفض الاسرائيليين، على اختلاف اتجاهاتهم، لهذه الحركة.
ولا بأس من التذكير بأن بيني موريس مولود في العام 1948 في احد الكيبوتزات ومن اهم كتاباته: 1 ـ ولادة مشكلة اللاجئين (1987) و2 ـ 1948 وما بعدها (1990) و3 ـ حروب اسرئيل الحدودية وضحايا الحق (1999) و4 ـ بعض المقالات التحليلية لرسائل بن غوريون. وهذه الاخيرة لعلها الأهم في كتابات موريس والاجدر بلفت نظر المثقفين العرب. اضافة طبعاً الى أعماله الأخرى.
ويشكو موريس ، مثله مثل بقية المؤرخين الاسرائيليين الجدد من عدم قدرة الباحثين العرب انفسهم من الاطلاع على الوثائق والملفات العربية. ويذكر انه يستعيض عنها بتقارير المخابرات الاسرائيلية المتاحة له.
والواقع ان كتابات موريس وغيره من المؤرخين الجدد تحتوي على انتقادات اقل حدة من إنتقادات تشومسكي ولكن مع فارق أساسي ان هذا الاخير يستند الى المقارنة بين التسريبات الصحفية في حين يعتمد المؤرخون على وثائق يحتاجونها من اجل محاججة المؤرخين الاسرائيليين الرسميين.
من هنا يبدو تفوق كتابات تشومسكي وملكيتها لهامش أوسع من الصراحة ومن الانتقادات المباشرة. عداك عن تفوق تشومسكي في التحليل اللساني. ونود لو نقرأ تحليلات تشومسكي لرسائل بن غوريون. كما نود ان نطلع على مساجلة بين تشومسكي والمؤرخون الجدد تبين لنا بوضوح اكبر اختلاف المنطلقات النظرية بينهما.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق