بدأت تلوح في الأفق بعض ملامح مشروع الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وذلك من خلال بعض التسريبات الصادرة من هنا وهناك؛ إذ أفادت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية أن الرئيس أوباما سيطلق مبادرته للسلام في الشرق الأوسط أثناء زيارته إلى القاهرة خلال الأسبوع الأول من الشهر القادم، وستتضمّن، حسب تلك المصادر، اقتراحا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وديمقراطية تكون منزوعة السلاح عاصمتها القدس الشرقية، بينما يقع تحويل البلدة القديمة والأماكن المقدسة إلى منطقة دولية تحت علم الأمم المتحدة مع ضمان تواصلها إقليميا في المناطق التي ستقوم إسرائيل بالتخلي عنها. كما يقضي المشروع بعدم منح حق عودة الفلسطينيين إلى الأراضي المحتلة عام 1948، بل إقرار مبدأ التوطين أو الإقامة في الأراضي التي احتلت سنة 1967 وتبادل أراض بين إسرائيل والفلسطينيين. ويتضمّن المشروع استعداد الولايات المتحدة وحرصها، مع الدول الأوروبية والعربية، على منح تعويضات اللاجئين وتنظيم وضعهم القانوني في الدول التي يقيمون فيها، بما في ذلك الحصول على جوازات سفر من تلك الدول "التوطين"...يتضمن المشروع، على ما يظهر، أبعادا وأهدافا أخرى، من ذلك ما أشار إليه الملك الأردني، مؤخرا، في لقاء مع صحيفة تايمز اللندنية، من احتواء المشروع على "حل يضم 57 دولة يعترف بموجبها العالم الإسلامي بأسره بإسرائيل"؛ كما اعتبر العاهل الأردني أن "المستقبل ليس نهر الأردن أو مرتفعات الجولان أو سيناء، بل المستقبل هو المغرب في المحيط الأطلسي وأندونيسيا في المحيط الهادي". لكن ماذا يعني السلام الإقليمي؟ وما هي أهدافه الحقيقية؟لم يكن هذا المفهوم جديدا، ولم يكن من إبداع أوباما، بل إن رئيسة الدبلوماسية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني كانت قد حددت معالمه بدقة وذلك أثناء محرقة غزة، إذ صرحت بأن "الصراع لم يعد إسرائيليّاً- فلسطينيّاً أو يهوديّاً- عربيّاً، لكنه صراع بين المعتدلين والمتطرفين". وكانت الوزيرة ذاتها قد أوضحت أثناء زيارتها إلى الدوحة، في السنة الماضية، أن الهدف من زيارتها إلى تلك العاصمة الخليجية إنما هو بغرض "بلورة جبهة مع دول الخليج وذلك في مواجهة الخطر الإيراني". أما عربيا فقد دعا الشيخ خالد بن حمد آل خليفة وزير خارجية البحرين إلى "قيام تكتل إقليمي يضم العرب وتركيا وإسرائيل وإيران"!. ببساطة شديدة يتمثل الهدف من المشروع الإقليمي هذا في تغيير طبيعة الصراع وجوهره، من صراع عربي "بغض النظر عن طبيعة الأنظمة" إسرائيلي- صهيوني، إلى صراع بين دول وأطراف معتدلة وأخرى متطرفة.. أي بين إيران المتهمة بالتطرّف والممانعة والدول العربية الموصوفة بالاعتدال! لم تعبّر الدول العربية لحدّ الآن علنا عن قبولها بالمشروع الأمريكي، غير أنها تبدو شديدة الحماس له باعتبار أنه يحدّ من "الخطر" الإيراني؛ وقد أبدى بعض تلك الدول امتعاضه من حوار أمريكي إيراني محتمل قد يكون على حسابها، تماما مثلما تخشى من عملية عسكرية إسرائيلية مفترضة ضد إيران تكون تداعياتها عليها كارثية.أما أمريكيا فإن الهدف المباشر والمعلن، كما أوضح ذلك أوباما ووزيرة الخارجية السيدة كلينتون، هو إيجاد تحالف إقليمي ودولي واسع للغاية "أوروبي روسي وصيني"، تكون الدول العربية وإسرائيل أساسه، وذلك لمحاصرة إيران وإضعافها ثم احتوائها لتحقيق أهداف ثلاثة وهي:• القضاء على جبهة المقاومة والممانعة في لبنان وفلسطين...• توفير ظروف مناسبة لانسحاب القوات الأمريكية من العراق دون خسائر و"بشرف".• عرقلة أي نية إيرانية في تحويل العراق إلى مجال حيوي لها.• التمهيد لضربة عسكرية بدعم من ائتلاف إقليمي ودولي في حال عدم نجاعة سياسة الاحتواء والحصار الاقتصادي والسياسي الدولي ضد إيران.بالنتيجة يبدو هذا المشروع صفقة تقوم على رفع الغطاء العربي عن إيران والتضييق عليها من خلال المساهمة في خلق محيط معاد لها وصولا إلى إنجاح الحصار عليها اقتصاديا وسياسيا في مرحلة لاحقة؛ وبالتالي عرقلة سعيها للحصول على السلاح النووي.. ومقابل ذلك تدفع إسرائيل "ثمنا؟!" يتمثل في انسحابها من أراض محتلة على أساس الدولتين، مما يؤدي إلى إزالة تهديد أمن إسرائيل من ناحية، وتطبيع العلاقات بين هذه الأخيرة والدول العربية والإسلامية من ناحية أخرى.ويأتي في هذا الإطار اختيار أوباما لزيارة القاهرة يوم 4 حزيران القادم "انظر الصدف العجيبة: يوم واحد قبل الهجوم الإسرائيلي على مصر سنة 1967" ليس بهدف تحسين صورة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم العربي، كما رُوِّج لذلك في بداية الأمر، وخاصة بعد زيارة أوباما إلى تركيا، بل بالأساس لإطلاق مشروع السلام الإقليمي هذا بما تمثله القاهرة من رمزية مجالية وسكانية وتاريخية وسياسية ودينية "الأزهر"، بالإضافة إلى كونها كانت أول دولة عربية تعقد اتفاقية "سلام" مع الدولة الصهيونية. والأهم من كل ذلك دور القاهرة المحوري في "التصدّي للخطر الإيراني المذهبي والسياسي" المعلن والمزعوم.فماذا عن الموقف الإسرائيلي في ظلّ حكومة نتنياهو اليمينية واليمينية المتطرفة؟يعتقد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أن الخطر الإيراني" يوفر لإسرائيل فرصة سياسية غير مسبوقة، فهي المرة الأولى منذ سنة 1920 تشارك دول عربية عدة مثل السعودية ومصر والأردن إسرائيل في تقييمها للوضع الإستراتيجي"، ورغم تعنّته ومكابرته يبدو أن زيارته إلى واشنطن ومباحثاته المكثفة مع أوباما، التي استغرقت ساعة و45 دقيقة على انفراد ولمدة أربع ساعات معاً "مع المستشارين"، قد أقنعته بضرورة "تحيين" مواقفه حتى لا يظل خارج السرب؛ لذلك قام بتغيير لهجته. إذ بعد الرفض العلني لقبول مفهوم الدولتين والرغبة في مواصلة تضييق الخناق على قطاع غزة حتى إسقاط حركة حماس ورفض تجميد توسيع المستوطنات اليهودية والتفاوض حول مرتفعات الجولان السورية.. أكد، في حديثه للصحافيين الذين رافقوه في زيارته إلى واشنطن، على استعداده لإجراء مفاوضات سلام بالتوازي مع "السلام الإقليمي"، ثم عند وصوله إلى تل أبيب صرح أمام الصحافيين بأنه على استعداد للتفاوض مع سوريا والفلسطينيين بدون شروط مسبّقة! فما الذي حدث حتى يغيّر نتنياهو مواقفه السابقة؟يظهر، حسب بعض الملاحظين، أن نتنياهو قد فهم الدرس جيدا بعد أن أحس، خلال زيارته لمختلفة مؤسسات القرار الأمريكي، بتغيّر بعض مرتكزات قوانين اللعبة. إذ لم تعد قضية السلاح النووي الإيراني تمثّل خطرا "وجوديا" على إسرائيل كما يدعي مسؤولوها، بل إن الأمر أصبح يهمّ عدة أطراف وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ودول المنطقة ككل، لذلك ترى تلك الأطراف أنه لا يمكن معالجة "المشكل" واستتباعاته إلا جماعيا وبسبل متعددة تتطلّب شروطا معيّنة وما على إسرائيل إلا الانضواء تحت تلك المظلّة الدولية "الناعمة" ابتداء...وبغض النظر عن كل ذلك لا تبدو مرتكزات هذا المشروع الأمريكي الجديد قوية وقابلة للحياة؛ إذ تبدو كخديعة أو فخّ جديد للإيقاع بين العرب والإيرانيين من جهة، ولاقتلاع المزيد من التنازلات من العرب، وذلك دون الحصول على حقوقهم التي أقرتها الأمم المتحدة من جهة أخرى. لذلك لا تتمثل المسألة، في أصلها وعمقها، بإقامة "دويلة حِراسة" فاقدة لكل عناصر السيادة والحياة الطبيعية، بل، أساسا، في إزالة كل مظاهر الاحتلال وإعادة الأرض لأصحابها وتمكين اللاجئين من الرجوع إلى ديارهم.. ومن غير ذلك تظل كل المشاريع فاقدة للمصداقية والتطبيق ويظلّ النضال، بجميع أشكاله، أمرا مشروعا لاستعادة الحقوق المسلوبة...
- Blogger Comment
- Facebook Comment
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق