نوع خاص من جنون الشرق الأوسط هناك مشكلة واحدة من بين جميع المشكلات الخارجية والداخلية يأبى السياسيون التحدث عنها علناً. والرؤساء الأميركيون يكتفون بالتفكير فيها وقراءة التقارير السرية عنها. وبالرغم من أن أعضاء الكونجرس من شيوخ ونواب على علم بها، فإن الكونجرس آخر مؤسسة يمكن أن تتصدى لها. وقام رئيس أميركي بعد آخر من سلسلة من الرؤساء بترك المشكلة لخلفه. فإدارة أيزنهاور كشفت عن غير قصد عن بعض النواحي الفنية التي زادت المشكلة تعقيداً. وفيما كان كندي يتأهب لتسلم الرئاسة حذره مستشاروه منها. ولم تسنح الفرصة له بالتصدي لها فحذر رئيس وزراء البلاد التي سببت المشكلة بأنها قد تعرض علاقتها مع الولايات المتحدة للخطر. واستخدم جونسون سلطته كلها لوقف التحقيق في المشكلة، وأبلغ مدير المخابرات المركزية (السي آي إي) بأنه لا يريد ان يرى أن تقرير عن الموضوع. ووقف الرئيسان نيكسون وفورد موقف المراقب وهما يشاهدان عناصر من وزارة الدفاع وأجهزة الأمن الأميركية ينتهكون المعاهدة الأميركية بشكل فاضح ويزيدون بذلك من حدة المشكلة. وبدءاً بالرئيس كارتر كان كل رئيس أميركي يدرك أن بعض النواحي المتعلقة بهذا الموضوع تشكل خرقاً لا نزاع فيه للقانون الفدرالي. هذه المشكلة التي أتحدث عنها معروفة إلى حد أن أي قارئ يتتبع الأحداث اليومية بدقة يستطيع أن يعرفها : إنها لأسلحة الذرية في الترسانة الإسرائيلية. ربما كان الرئيس جونسون يستحق أن نذكره بشكل خاص في هذه القصة المحزنة لأنه كان أول رئيس أميركي يسهم إسهاماً كبيراً مباشراً في برنامج إسرائيل لصنع الأسلحة النووية. ففي أكتوبر عام 1968 سمح ببيع القاذفات المقاتلة فانتوم ف – 4 ي لإسرائيل، وبذلك أمدها بالنظام المعتمد عليه لضرب القنبلة. على أن ما يميز عهد جونسون في الحقيقة هو أنه عندما ترك سدة الرئاسة استطاع أن يكتب في مذكراته أن معاهدة انتشار الأسلحة النووية هي أهم إنجازات إدارته وأهم اتفاقية توصل إليها مع الاتحاد السوفييتي. لكن عند التأمل في الأمر نجد أنه ليس من الإنصاف التركيز على جونسون وحده. فالرئيس كارتر هو الذي عمل على إقرار قانون مساعدة الأمن الدولي لعام 1977 الذي اشتمل على إدخال "تعديلات سيمغتون" على قانون المساعدات الخارجية لعام 1961. وقد نصت هذه التعديلات بوضوح على قطع المساعدات الأميركية الاقتصادية والعسكرية والهبات والتدريب والتعليم العسكري عن أي بلاد تصنع أن تنقل أو تتلقى أو تفجر "قنبلة نووية". وفي أواخر عام 1979 شكل كارتر ومستشارو البيت الأبيض للأمن ندوة للنظر في التفجير النووي في جنوب الأطلنطي الذي وصف بأنه حلقة في سلسلة تفجيرات إسرائيلية وجنوب أفريقية مشتركة. وخلال المداولات حصل البيت الأبيض على معلومات التقطتها الأجهزة الإلكترونية الأميركية من الاتصالات الإسرائيلية العسكرية وتشكل دليلاً قاطعاً على أن التفجير الإسرائيلي حدث فعلاً. لكن البيت الأبيض نفى في الندوة حصوله على تلك المعلومات. وعليه فمن الواضح أن كل ذرة من المساعدات الأميركية الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل وكل زيارة قام بها ضابط إسرائيلي للتدريب في هذه البلاد منذ عام 1977 غير قانونية. ثم إن المسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إي) ووكالة للمخابرات بوزارة الدفاع، ومختبر الأبحاث وحتى مجلس الأمن القومي ذاته أعدوا تقارير سرية عن طبيعة أسلحة إسرائيل الذرية وحجمها والاختبارات التي أجريت عليها. لكن هذا ليس السبب الوحيد الذي قد يجعل جورج بوش أول رئيس أميركي يتصدى لهذه المشكلة. فقنبلة إسرائيل أصبحت عاملاً خطراً يزعزع المعادلة العسكرية في الشرق الأوسط. فالرد المباشر لدول المواجهة العربية على قدرات إسرائيل الذرية يتمثل في سعيها إلى الحصول على أسلحة التسراتيجية فتاكة تشمل الصواريخ الموجهة بعيدة المدى ورؤوس حربية كيماوية بيولوجية ومشعة. لا يشك أي معنيّ بدراسة الوضع في أن لدى العرب من الحوافز والمال والقدرات التقنية ما يمكنهم من الحصول على الأسلحة الذرية واستخدامها. وما المؤتمر الذي عقد بباريس حول حظر الأسلحة الكيماوية سوى البداية. قم إن المجتمع الدولي لن يسمح للرؤساء الأميركيين بدءاً بجورج بوش أن يلقوا المواعظ عن انتشار الأسلحة الاستراتيجية بينما يقومون سراً بدعم احتكار إسرائيل للأسلحة النووية في الشرق الأوسط. وكذلك فإن إدراك الجميع لتفاصيل النفاق الأميركي حول هذا الموضوع سوف يشل قدرة الولايات المتحدة على القيام بدور فعال في مفاوضات السلام في المنطقة. هناك من الناحية الأساسية خياران أمام الولايات المتحدة : الأول أن تفرض على إسرائيل التخلص من سلاحها النووي، والثاني أن تشهد الخطوات القليلة الباقية لإنشاء نظام جنوبي من التدمير الأكيد المتبادل في أكثر مناطق العالم تفجيراً. لقد حان الوقت لأن يكف كل رئيس أميركي عن ترك المشكلة لخلفه. فلا بد لأحد خلفاه من أن يتصدى لها. |
ألغاز كيماوية (نشرت في 23 أكتوبر 1989) كانت إدارة بوش أحياناً تجد متعة كبيرة في وصف ميخائيل غورباتشوف بأنه يستخدم الحركات لإحداث التأثير المطلوب، وأنه يحتال لكسب الجمهور. لكن عندما ألقى بوش خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الأسلحة الكيماوية بدا وكأنه يخلط الجد بالهزل. قال بوش وسط هتاف المستمعين : "ينبغي علينا خدمة للبشرية أن نقضي على هذا الخطر". وأثار الإعجاب عندما اقترح تخفيض حجم المخزون منها على ثلاث مراحل يتم في نهايتها التخلص منه نهائياً. فقال إن الولايات المتحدة على استعداد في المرحلة الأولى أن تخفض مخزونها بمقدار 80 % إذا فعل الاتحاد السوفييتي الشيء ذاته، وأنها في المرحلة الثانية ستخفض ما تبقى لديها منه بمقدار 98 % إذا وافقت الأمم الأخرى الأربعون التي وقعت على مؤتمر جنيف لنَزع السلاح على إبرام معاهدة جديدة تحظر الأسلحة الكيماوية. وأضاف أنها – أي الولايات المتحدة – في المرحلة الثالثة ستدمر كل ما تبقى منه إذا حذت الأمم الأخرى حذوها. وعندما ألقى وزير خارجية الاتحاد السوفييتي خطابه في اليوم التالي واقترح أن تقوم الدولتان العظميان بالتخلص من تلك الأسلحة بسرعة أكبر، كان التفاؤل الذي أشاعه ما يبرره. إذ بدا أنه سيتم إحراز تقدم تاريخي في مجال لم يشهد شيئاً يذكر منه منذ 1925، وهو مجال الحد من الأسلحة. على أن المتشككين أشاروا إلى أن الولايات المتحدة تستطيع أن تواصل صنع تلك الأسلحة، وأن المرحلة الأولى المقترحة للتخفيضات التي نالت موافقة الكونجرس لا تنطوي على أكثر من التخلص من مواد خطرة كبيرة الحجم تقادم عهدها ولم تعد ذات فائدة كبيرة للأغراض العسكرية في الوقت الحاضر. لكن المشكلة الحقيقية التي انطوى عليها اقتراح بوش – كما أشار شيفرنادزه في خطابه – هي أن أي خفض مهم لمستويات المخزون من تلك الأسلحة في الولايات المتحدة وروسيا مرتبط بأعمال الأمم الأخرى التي تمتلك مثل تلك الأسلحة. فعلى الدولتين العظميين – كما أضاف شيفرنادزه – أن تذهبا إلى أبعد من ذلك وتفرضا على نفسيهما التزامات ثابتة قبل عقد المؤتمر الذي تشارك فيه الأمم الأخرى. وبعد أن ألقى بوش خطابه أشار فكتور كاربوف رئيس إدارة الإشراف على التسلح بوزارة الخارجية السوفييتية إلى الحاجة إلى تلك الالتزامات الأميركية السوفييتية الإضافية. وقال إن الخطأ في معالجة بوش للموضوع هو أنه إذا رفضت أمة واحدة توقيع المعاهدة فإنها قد تعطل أي تخفيض يذكر في مخزون السوفييت والأميركيين من الأسلحة. وأظهر المساعدون بالبيت الأبيض اهتماماً كبيراً بهذه النقطة وذكروا أسماء البلاد التي تقلقهم أسلحتها الكيماوية وهي ليبيا وسوريا والعراق. والمشكلة هنا ليست مجرد تمرد بعض الحكومات التي تنتج الأسلحة السامة وإنما هي الحاجة إلى الربط في اقتراح بوش وبشكل ما بين الأسلحة الكيماوية والأسلحة الذرية. فسوريا التي دعمت إيران في حربها مع العراق تدرك جيداً أن العراق حقق خطوات مهمة في تطوير الأسلحة الذرية. وكذلك فإن باكستان التي يشتبه غي أنها تعمل على إنتاج أسلحة كيماوية وذرية تخاف من الهند التي سبق لها أن أجرت تجارب نووية، والتي يشتبه في أنها تقوم الآن بتطوير أسلحة كيماوية. والأكثر أهمية من هذا أن لدى الدول الثلاث التي تقلق البيت الأبيض ببرامجها لصنع الأسلحة الكيماوية ما يبرر خولها من إسرائيل التي أنتجت وربما اختبرت الأسلحة النووية والتي تسعى الآن جاهدة إلى إنتاج أسلحة بيولوجية. وعليه فإن الدول العربية هي التي أصرت في المؤتمر الدولي حول السلام الذي عقد في يناير على ربط الأسلحة النووية بالكيماوية واستشهدوا بأسلحة إسرائيل الذرية. ويضرب الآن المثل بسياسة الولايات المتحدة في تجاهل برنامج إسرائيل لإنتاج الأسلحة النووية. ثم إن الرؤساء الأميركيين يترددون في فضح باكستان وغيرها من الدول التي يربطنا بها علاقات أمنية. ومما ندفعه ثمناً لهذه السياسة الازدواجية إزاء الأسلحة النووية هو حرمان الولايات المتحدة من المصداقية بالنسبة إلى انتشار الأسلحة الكيماوية. فالطلب من أقطار معينة أن توقع على معاهدة تحظر الأسلحة الكيماوية دون الذرية يعني أننا نريد منها أن تتخلى من طرف واحد عن سلاحها الذي تواجه به أعداءها. ألم يكن من المفترض أن يرى ذلك الرئيس ومساعدوه قبل أن يشرع في إعداد "مبادرته الدرامية" في خطابه عن الأسلحة الكيماوية في الشهر الماضي؟ وما هو أسوأ أن يكون بوش ورجاله قد عرفوا هذا لكنهم تجاهلوه واعدوا الخطاب للتأثير في المستمعين؟ أليست الجمعية العامة للأمم المتحدة منبراً لخداع الجماهير ؟ |
- Blogger Comment
- Facebook Comment
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق