Facebook

قابلية الدول العربية لحضانة الثورات


رصد المزاج العام عملية تقع على الحدود بين السياسة والعلوم الانسانية وبخاصة علم النفس وعلم الاجتماع. فيما نفضل شخصياً إعتبار هذه العملية واحدة من وجوه استغلال السياسة للعلوم الانسانية. وعملية الرصد هذه تجري عادة بطريقة آلية روتينية الا انها تطرح ضرورة التعمق في متابعتها للرأي العام في الحالات المفصلية كمثل تعرض المجتمع لمواجهات داخلية او خارجية تتطلب تضحيات الجمهور والتأكد من ملكيته للدوافع المؤكدة لاستعداده لتقديم تضحيات مماثلة.

الثورات العربية المتلاحقة بينت تعكر المزاج العام في هذه الدول وربما تعكر المزاج العربي العام بدليل تلاحق التحركات وانتشارها الوبائي السريع في غالبية الدول العربية اذا لم نقل كلها. كما ان اندفاع الشارع العربي لتأييد هذه الثورات يؤكد تعكر المزاج العام لهذا الشارع وصولاً لتبنيه مبدأ التغيير بعض النظر عن تهديدات الفوضى التي قد تصاحب أو تعقب التغيير.

الانظمة العربية كافة تبحث هذه الايام عن الوسائل الاكثر فعالية لرصد المزاج العام لجمهورها وأهم منها تشخيص قابلية النظام لحضانة ثورة قد تؤدي الى نهايته وسقوطه. ذلك ان وسائل الرصد التقليدية لتوجهات الرأي العام ومزاجه لم تعد صالحة في هذه اللحظة السياسية العربية التي تشهد انفعالات تطلق معها القناعات الضمنية التي يخفيها هذا الحمهور عادة ما يجعلها خارج مجال رؤية وسائل الرصد التقليدية.

المسألة هنا تدخل في اطار الطب النفسي العسكري والأمني وتقتضي إستقراء تجارب هذا الفرع على ضوء معرفة مكتملة بانثروبولوجيا الدول العربية المعنية. حيث المراكز الاميركية التي تتولى أغلب عمليات الرصد هذه جاهلة تماماً لهذه المعطيات الانثروبولوجية. وهو جهل أكدته التجربة الاميركية في العراق.

البعـد الثالث – الزاوية الميتة

في هذه الحالات الانفعالية الجماهيرية تضمحل اهمية النتائج القائمة على الرصد ثنائي البعد القائم على مباديء ثنائيات العنف/الضحية والنظام/ التمرد وغيرها من الثنائيات. اذ تحتاج الدراسات لاوضاع مماثلة الى البعد الثالث الذي يجعلها مكتملة وقادرة على اظهار الرؤية الهولوغرافية لهذه الاوضاع. ويتمثل هذا البعد الثالث باسلوب معايشة الجمهور للحظة السياسية – الاقتصادية المنتجة للاحداث. انها الزاوية الميتة (المسافة غير المرئية في مرآة الرصد) التي يتم تجاهلها في العادة.

هنا تعجز اساليب الرصد التقليدية عن مقاربة هذا البعد الثالث. الذي نعطي عليه مثالاً احد اهم الاحجيات العلمية التي طرحت على صعيد الطب النفسي العسكري حيث سجّل الأطباء الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى ردود فعل كارثية لدى الجنود الألمان من نوع الهيستيريا ومنها داء الارتجاف الهيستيري. أما في الحرب العالمية الثانية فقد سجل هؤلاء الأطباء ردود فعل كارثية سيكوسوماتية لدى الجنود الألمان من نوع القرحة وارتفاع ضغط الدم وغيرها من ردود الفعل السيكوسوماتية. وطرح السؤال هنا: لماذا تبدلت ردود فعل الجندي الألماني واختلفت بهذه الصورة؟.

واختلاف ردود الفعل امام الكارثة يعكس اختلاف معايشة الجنود لضغوط الكارثة المتمثلة بالحرب وخطر الموت خلالها. واختلاف المعايشة في هذه الحالة هو تحديداً ما نقصده بالبعد الثالث.

لقد سجلت الملاحظات الطبية انتشار داء الارتجاف الهيستيري بين الجنود الالمان خلال الحرب العالمية الاولى بحيث كان يعقيهم عن مواصلة القتال. فيما أثبتت الفحوصات الطبية الدقيقة غياب اية خلفية عضوية لهذا الارتجاف. وبينما كان الاطباء العسكريون الالمان يتوقعون مواجهة داء الارتجاف مجدداً في اوساط جنودهم فوجئوا بغياب هذا العارض نهائياً في مقابل ظهور امراض واضطرابات من النوع النفس – جسدي بين الجنود. وهي اصابات يمكن تبريرها بالشدة المصاحبة للمعارك.

بعد دراسات مقارنة معمقة تبين للاطباء النفسيين العسكريين ان مستوى التحشيد القومي في الحرب الاولى كان ضعيفاً وان الجنود لم يكونوا محرجين من الانسحاب من ميدان المعركة لاي سبب كان. اما في الحرب الثانية فقد كان مستوى الاندفاع القومي عالياً ما جعل الجنود يخجلون من الانسحاب ويتحملون شدائد المعارك لغاية اصابة بعضهم بردود الفعل الجسدية الناجمة عن هذه الشدائد. ذلك ان الجنود الالمان دخلوا الحرب الثانية لازاحة الظلم اللاحق بالمانيا نتيجة معاهدة فرساي. مع ملاحظة ان الفارق بين الحربين كان عقدين من الزمن فقط. حيث شاركت اعداد كبيرة من الجنود الالمان في الحربين معاً لكن المختلف هنا كانت معايشة هؤلاء الجنود لظروف الحرب واقتناعهم بمبرراتها وضرورتها.

مثال آخر على أثر معايشة اللحظة الاقتصادية – السياسية هو الاتحاد السوفياتي ومعه أوروبا الشرقية التي شهدت نهاية الثمانينات تبدل اللحظة الاقتصادية- السياسية فانفجرت فيها الصراعات وانتشرت حركات التمرد والثورات الملونة. ومع تسجيلنا لاهمية دور المخابرات الاميركية في تحريك هذه الثورات ودعمها فاننا نلاحظ ان هذا التدخل كان متواجداً بصورة اكثر كثافة خلال في السنوات السابقة لكنه لم يكن يتمتع بالفعالية. وانما هو استمد فعاليته من تغيرات اللحظة الاقتصادية- السياسية ومعها تغيرات أساليب المعايشة لدى شعوب تلك البلدان.

وتأكيدنا على هذا المثال يعود الى محاولة اختصار البعد الثالث وتجنب الخوض فيه عبر طرح نظرية الدومينو السياسي. التي تبين انها صالحة للتطبيق في الحالة المعروضة كون جميع الثورات الملونة إتجهت نحو انظمة تعتمد نظام حكم عقائدي بعد سقوطه. وهو ما لا ينطبق مثلاً على الدول العربية حيث يشكل الاسلام احد ركائزها السياسية غير القابلة للتجاوز عداك عن الاختلاف الجذري في التوجهات السياسية للانظمة العربية الحاكمة.

التصنيف الهولوغرافي للكيانات العـربية

لو دققنا النظر لوجدنا أن الاضطرابات السياسية في المنطقة العربية انطلقت من الكيانات التي ظهرت كنتيجة مصطنعة للحرب العالمية الأولى (بلاد الشام التاريخي ولبنان اضعف حلقاتها). فالتغيرات الجغرافية التي حصلت عقب هذه الحرب لم تكن مجرد تغيير في اللحظة الاقتصادية-السياسية بل كانت تغييراً مصطنعاً في تاريخ الزمن. دون ان يعني ذلك أن بلدان التوازن والازدهار العربية بمنأى عن الاضطرابات السياسية في المستقبل. خاصة وان الاستعمار ترك معظم الدول العربية دون تحديد دقيق لحدودها البرية والبحرية. بحيث تبقى الخلافات الحدودية مصادر تهديد دائم لإستقرار هذه الدول.

وما يصح في المنطقة العربية يصح على مناطق العالم بما فيها الولايات المتحدة الاميركية. إذ ان حوادث لوس أنجلوس (1991) ولغاية حوادث سـينسيناتي (2001) هي انذارات باحتمالات نشوب الاضطرابات السياسية لغاية الحرب الأهلية الأميركية اذا ما تغيرت اللحظة الاقتصادية-السياسية الراهنة في اميركا.

وبالعودة الى المنطقة العربية يمكن توزيع كياناتها السياسية على الفئات التالية:

أ- الكيانات المنفصمة Schizoide: وهي الكيانات التي تعاني تناقضات عرقية و /أو دينية و/ أو فكرية. وهي تهدد بانفجار نوبات عنف من نوع الشيزوفرانيا الاقتصادية- السياسية المتمثلة بتفاوت تمييزي بين فئاتها المتناقضة. وهو تفاوت يتعلق بالحقوق والواجبات ومستويات الدخل ويمكنه ان يؤدي الى نشوب الحروب الأهلية وعمليات العنف والاغتيالات وغيرها. وتصنف في هذه الفئة كل الدول التي سبق لها وان شهدت حروباً أهلية بما فيها تلك المؤدية لتوحيد هذه الدول (لبنان وسوريا واليمن والجزائر والاردن والسعودية والبحرين عربياً والولايات المتحدة وايرلندا وبلجيكا عالمياً).

ب- الكيانات الانهيارية Depressive: وتعاني من تهديد هويتها وشخصيتها القومية مما يدفعها الى اليأس بحيث يمكنها أن تعمل على ايذاء ذاتها والآخرين بطريقة عشوائية، وصولا” لقيام الأفراد بارتكاب أعمال انتقامية ضد العدو المفترض حسب اللحظة الاقتصادية – السياسية. وهي حالة العراق بعد الاحتلال. كما ينطبق هذا التصنيف على مصر تحت ادارة مبارك التي تبنت توجهات سياسية تهدد الهوية المصرية. فتجلى تمرد الافراد عبر ايمن الظواهري واتباعه من مواطنيه ليعود فيتجلى بالثورة المصرية التي هدفت الى تثبيت الهوية المصرية. وهو ما تؤكده توجهات قيادات هذه الثورة. كما تصنف ثورة تونس ومعها دول موريتانيا والمغرب وجزر القمر في هذه الفئة.

ج- الكيانات الهوسية Manic: حيث يتظاهر الصراع من خلال هوس التطرف القومي أو العرقي أو الديني. هذا الهوس الذي يتفشى بداية في مجموعات صغيرة نسبياً قابلة للاتساع. وهذه الكيانات تملك القوة غير العادية التي يتمتع بها المهووس. ورغم تعددية الكيانات العربية القابلة للتصنيف في هذه الفئة الا ان الاحباطات العربية المتوالية والحصار الاقتصادي المفروض على هذه الكيانات وانفتاح بعضها اللامشروط على السياسات الاميركية يؤجل تصنيف اي كيان عربي في هذه الفئة. إلا ان اندلاع الثورة الليبية وسلوك النظام إزاءها يوحي بالعودة لتصنيف ليبيا ضمن هذه الفئة الهوسية.

د- الكيانات الهيستيرية Hysteric: حيث لا خلفيات امراضية حقيقية وانما هو الصراع على السلطة أو على السيطرة على المنافسين الآخرين وعلى مقدراتهم. وتدرج في هذه الفئة بلدان مجلس التعاون الخليجي باستثناء السعودية والبحرين. وتتنافس على صدارة هذه الفئة كل من دولة قطـر وإمارتي دبي وأبو ظبي.

في هذه الحالة علينا أن لا نهمل مسألة الاغواء الهيستيري ونجاحاته في السيطرة على الآخرين. حيث يمثل اليمن الموحد الحالي احد اهم الامثلة العربية على هذه الكيانات. كما أن علينا ألا نمهل احتمالات بداية الذهان تحت ستار الهيستيريا. بمعنى تحول الكيان اليمني الموحد من هيستيري الى واحدة من الفئات سابقة الذكر.

تشخيص قابلية الدول لحضانة الثورات

يقودنا التصنيف المعروض أعلاه الى طرح العديد من الملاحظات المبدئية في عملية ” تشخيص قابلية الدول العربية لحضانة الثورات” وهذه الملاحظات هي التالية:

1 – ضرورة التشخيص التفريقي بين كل من الحالة السعودية والبحرينية وبينهما وبين كل من الامارات والكويت وقطـر. بما يعني وجود اختلافات بنيوية بين هذه الدول يستتبع اختلاف قابليتها لحضانة الثورات الداخلية الافتراضية.

2 – قابلية بعض الدول العربية للمراوحة بين فئة تصنيفية وأخرى إعتماداً على سلوك نظامها السياسي الحاكم. كما بحسب انتمائه للجماعات المتناقضة المكونة للدولة.

3 – عدم قابلية قائمة من الدول العربية لحضانة الثورات الافتراضية بحيث يتحول اي تحرك سياسي فيها الى صراع بين مكوناتها المتناقضة. حيث نلاحظ تحول الثورة البحرينية الى المذهبية والثورة اليمنية ومثلها الليبية الى القبائلية. وهذه الملاحظة تسمح باستبعاد الدول المدرجة في فئة المنفصمة وهي لبنان وسوريا واليمن والجزائر والاردن والسعودية والبحرين. لكن مع الاشارة الى ان مناعة هذه البلدان تجاه الثورات الافتراضية لا تعني مناعة انظمة الحكم فيها تجاه الاضطرابات السياسية الأخرى.

اما عن بقية عناصر التشخيص التفريقي لقابلية حضانة الثورات الافتراضية فهي:

1 – تحديد البنية الانثروبولوجية الاساسية للدولة المعنية مع تعريف عناصر الاختلاف بين جماعاتها المكونة. عناصر طائفية او مذهبية او عرقية او قبائلية أو غيرها.

2 – تحديد التوجهات السياسية الاعتيادية للدولة المعنية. بما يتضمن تحديد تموقعها في التوازنات الجيوسياسية القائمة في المنطقة.

3 – تحديد اتجاهات اعادة تموقع الدولة في التغيرات الطارئة مؤخراً على التوازنات الجيوسياسية في المنطقة. وتحديداً الموقف من الاندفاعة الجيوسياسية التركية الاخيرة في المنطقة. باعتبار هذه الاندفاعة احد المولدات الرئيسية للثورات العربية. عبر إحيائها للطموحات الكامنة في الشارع العربي.

4 – تحديد علائم السلوك السياسي الراهنة ورصد حدوث متغيرات سريعة طارئة في هذا السلوك. مثال ذلك متغيرات سلوك النظام المصري في الفترة الاخيرة مضافة لمتغيراته السابقة. وايضاً انقلاب السلوك السياسي الليبي المفاجيء تجاه الولايات المتحدة والغرب عموماً.

5 – نمطية علاقة النظام الحاكم في الدولة بجمهوره ومقدار مجاراته لتوجهات الشارع العربي. حيث تعتبر سيولة التواصل بين الحاكم والمحكوم عنصر مناعة وقائية. وحيث تعتبر مسايرة النظام لمشاعر الشارع العربي جواز مرور للقبول العربي بالنسبة لمواطني الدولة. وتزداد أهمية هذا القبول العربي الاوسع في حالة الدول العربية الفقيرة التي يتوزع مواطنوها للعمل في دول عربية أخرى. مثال ذلك تحميل نظام مبارك مسؤولية إزدراء المصريين العاملين في الدول العربية (سواء بسبب لاشعبية مواقف النظام او بسبب إهماله الدفاع عن حقوق مواطنيه). وهي مسؤولية شكلت احد محركات الثورة المصرية. التي ظهرت آثارها قبل تنحي مبارك عبر تغيير لهجة الشارع العربي إزاء مصر والمصريين.

الاستراتيجية العلاجية الوقائية من الثـورات

لا بد لهذه الاستراتيجية من أن تستند الى معرفة وثيقة بهيكلية الاضطراب السياسي وعلاقتها بالثغرات الهيكلية في النظام السياسي وكذلك علاقتها بإهتزاز هيبة النظام وتعرضه لوضعيات التنازل القسري والتهديد الخارجي وغيرها من عوامل المساس بهيبة النظام واظهار عجزه بما يفقده القدرة على طمأنة الداخل بتأمين حمايته وحماية البلد ومواطنيه. ونختصر خطوات الاستراتيجية المقترحة على الوجه التالي:

أ- تعقيدات سيكياترية: تتظاهر على الصعيد الجمعي عبر الانتشار الوبائي لظواهر غير مألوفة في المجتمعات المعنية كمثل ظواهر انتشار ادمان المخدرات والمسممات وظواهر السلوك الغرائزي الخارج على مألوف التحفظ الاجتماعي المعتاد وظاهرة الدعارة الحلال وغيرها.

ب- تعقيدات سيكوسوماتية: وتتظاهر بضغوط غير مألوفة على الخدمات الطبية مصحوبة بشكاوى امراضية غير اعتيادية وغير مصنفة في اطار المراجعات الطبية التقليدية.

ج- تعقيدات اجتماعية: تتظاهر بحالة التململ وعدم الرضى عن مستوى الرعاية والأمن الاجتماعيين. مصحوبة بكشف حساب قديم عن حالات الظلم الاجتماعي والفساد مع لامبالاة فردية تجاه المسؤوليات الفردية والاستعداد لإزاحة التهم عن مسببيها الحقيقيين نحو السلطة باعتبارها اللاعب العاجز في مواجهة المسببين الحقيقيين.

بهذا ننهي حديثنا عن المواقف الاعتيادية والمفاجئة لضحايا الصدمة والتغييرات الاجتماعية الناجمة عن الصدمات المعنوية الجماعية التي تمس بالمجتمعات وبهيكليتها ونحن نتساءل عن مدى التزامنا بالقسم الأبقراطي وعن الضوابط الأخلاقية القابلة للتعميم والتي تحدد دور الطبيب النفسي في حل الصراع وفي التدخل في الحالات الكارثية.

د. محمد أحمد النابلسي

رئيس المركز العربي للدراسات المستقبلية

Share on Google Plus

About Unknown

This is a short description in the author block about the author. You edit it by entering text in the "Biographical Info" field in the user admin panel.
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

أضف تعليق