الكاتب جمال الملاح
تحيرني كثيراً الحالة السورية بجميع تفاصيلها، الصورة الكلية لها، نظاماً وشعباً، لا نبالغ إذا قلنا أنها حالة نادرة، علاقة الشعب السوري بنظامه علاقة خاصة مثيرة للانتباه، رغم أن النظام هناك لا يختلف كثيراً عن مثيله من النظم العربية، قمع، استبداد، تضييق للحريات، مستوى اقتصادي متدن، بطالة، فقر، كل خصائص النظم العربية متاحة لدي نظام بشار الأسد. الرئيس السورى بشار الاسد
ولكن المثير للانتباه هنا الشعب السوري نفسه، حيث يبدو وكأنه استقر في وجدانه أنه لا خلاص بينه وبين النظام، أصبح جزءاً من تركيبة المواطن السوري، العلاقة بين الشعب السوري ونظامه تشبه تماماً الزواج الكاثوليكي، لا طلاق فيه، ولكن الاختلاف هنا أن الشعب رغم تنكيل النظام به أقنع نفسه ـ أو أُجبر على ذلك ـ بأنه لا خلاص يظهر في الأفق.
لا يمكننا أن ننكر أن الشعب السوري لديه وعياً قومياً كبيراُ أفرزته تجاربه الوحدوية مع أشقائه العرب في ستينيات القرن الماضي، ولكن ما يزيد من حالة الدهشة والحيرة تجاه ذلك الشعب، أن هناك أرضاً مغتصبة من قبل الكيان الصهيوني، هو وضع يكفي بالتأكيد لإثارة التوتر بين النظام والشعب مهما كان حجم الحريات ومستوى التقدم الاقتصادي.
وإذا افترضا انتفاء جميع الأسباب التي أدت إلى ثورة الشعوب العربية ضد حكامها في الحالة السورية، إلا أن دمشق يجب أن تكون حالة خاصة، فهناك هضبة الجولان، أرض محتلة من قبل العدو الإسرائيلي منذ ما يقارب النصف قرن، هو بلا جدال سبب وحده يقيم الثورات والمظاهرات ضد أعدل الحكام وأكثر النظم الديمقراطية، فهل هناك من كرامة إذا لم نسترجع الأرض والعرض ؟!، ومن منا لا يتذكر المظاهرات المستمرة التي قام بها المصريون ضد نظام السادات في سبعينات القرن الماضي، حتى أجبرته على مغافلة العدو الإسرائيلي واسترجاع سيناء في حرب أكتوبر 1973.
لكن يبدو أن الوضع في سبيله للتغير، حيث تشهد سوريا نقله نوعيه، صحيح أن النظام كما هو، يتعامل بنفس العقلية الاستبدادية، فلا تغير يذكر في طريقة تعامله مع معارضيه، إلا أن الواقع يشير إلى أن الوعي السياسي الوطني ـ وليس القومي ـ يزداد يوماً بعد يوم لدي المواطن السوري، والمؤكد أن للاحتجاجات والتغيرات التي حدثت في مصر وتونس كان لها دخل كبير في ذلك.
أزمة الشعب السوري تكمن في أن النظام هناك أستغل ومنذ ستينيات القرن الماضي الأفكار القومية في تغييب إرادة الشعب، حتى أن السوريون أنفسهم نسوا أنه بموازاة الهوية القومية يجب يكون هناك ثقافة وهوية وطنية، فالهويتان القومية والوطنية لا يتعارضتا.
بيد أن التطورات الأخيرة التي شهدتها بلدان عربية خلقت روحاً وطنية جدية لدى المواطن السوري، فقد أيقظت لديه الوعي الوطني، وأدرك أن النظم الأبوية باتت من الماضي، بعدما أسقطتها ثورات الفيسبوك.
فقد دعا عدد من النشطاء السوريين من خلال موقع التواصل الاجتماعي على الانترنت إلى جعل يوم 15 مارس الجاري يوما لانتفاضة سورية ضد نظام الرئيس بشار الأسد والحكومة، وذلك من خلال صفحه على الفيسبوك بعنوان "يوم الغضب السوري"، بلغ أعضاؤها آلاف المشاركين، فضلاً عن صفحة أخرى تحت عنوان "الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد 2011".
ودعت هذه التجمعات الإلكترونية إلى الخروج في مظاهرات سلمية حاشدة يوم 15 مارس الجاري، في كل شوارع وميادين سوريا، بالتوازي مع تظاهرات للجالية السورية في كل العالم أمام السفارات الوطنية. وأكد القيمون على الصفحة أنهم لا ينتمون لأي جهة سياسية، وإنهم مجرد حقوقيين وناشطين سوريين من داخل سوريا ومن خارجها أيضاً.
ولكن ورغم أن الدعوة في حد ذاتها خطوة جيدة، إلا أن تجارب سبقتها لا تدعو للتفاؤل، ففي الرابع من فبراير الماضي دعت مجموعة مماثلة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك إلى التظاهر بعد صلاة الجمعة فى كافة المدن السورية ضد "أسلوب الحكم الفردى والفساد والاستبداد"، إلا انه لم تسجل فى هذا النهار أى تظاهرات فى سوريا، وإن كان ذلك متوقعاً بدرجة كبيرة، فحالة التضييق التي مارسها النظام السوري على الحريات، خلقت ـ بطبيعة الحال ـ مجتمع مدني ومعارضة ضعيفة جدا تكاد تكون معدومة في سوريا.
السؤال هنا: هل يمكن استنساخ تجارب ثورات الشعوب العربية الأخيرة ضد حكامها، على الحالة السورية؟
يرى الكاتب ديفيد اجناتيوس، في مقاله بصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، أن سوريا تعد حالة متناقضة مع مشهد الثورة الذي يجتاح العالم العربي بالرغم من أن حزب البعث الذي حكم سوريا يعد من رموز الديكتاتوريات العربية.
وذكر الكاتب أن فرنسا ترى احتمالات قيام ثورة في سوريا منخفض جدًّا بالمقارنة بالدول الأخرى، مضيفا أن هناك جدالا بين مستشاري الرئيس السوري حول عما إذا يجب عليه السماح بالمزيد من الديمقراطية والانفتاح -وهي الأشياء التي ادعى بشار أنه يريدها- أم الإبقاء على القبضة القوية على السلطة، فالإصلاحيون يرون أن تلك التغييرات ستعزز من شعبية الأسد، فيما تري المؤسسات العسكرية، التي تعارض ذلك، أن القيام بتلك الإصلاحات ستعد مؤشرا للضعف وتعزيزا لقوة الإخوان المسلمين بسوريا.
المحللون السوريون يرون من جهتهم أن بلادهم في منأى عن حركات الاحتجاج التي تشهدها بعض الدول العربية، معللين ذلك بوجود عوامل موضوعية تفرض تباينا بين ظروف سوريا وتلك الدول، لكنهم في المقابل يقرون بضرورة القيام بخطوات إصلاحية هامة خصوصا في مجال تحسين الأوضاع المعيشية.
ويعدد الباحث حميدي العبد الله ما سماها جملة معطيات موضوعية قال إنها تجعل سوريا محصنة إزاء احتجاجات كالتي شهدتها تونس ومصر. وقال للجزيرة نت إن مواقف سوريا السياسية الخارجية، وحالة الصدام المتواصل مع واشنطن في معظم ملفات المنطقة يجعل سياسة الحكومة السورية تنسجم مع الشارع، أما الباحث حميدي العبد الله فيرى من جهته أن معايشة السوريين لحالة الفوضى المحيطة بهم في العراق وقبلها لبنان، تفسر بدرجة كبيرة عدم حدوث احتجاجات تشبه ما جرى في الدول العربية الأخرى، رغم أن سوريا ليست بلدا غنيا.
من جهة أخرى، يؤكد محللون آخرون ضرورة الالتفات إلى إصلاحات عميقة وجدية تعزيزا للوضع الداخلي السوري. ويرى الناشط الإعلامي مازن درويش أنه بعد انقضاء أكثر من خمسة عقود على حالة الموت السياسي الذي فرضته الأنظمة الشمولية في المنطقة العربية أصبح الإصلاح أولوية وضرورة داخلية ملحة لكل بلدان المنطقة بغض النظر عن وضعها وظرفها وحساسياتها الداخلية أو الإقليمية. ورأى مازن درويش أن سوريا لا تشكل استثناء من هذه القاعدة.
لا عجب في أن يستخدم النظام السوري الصراع العربي الإسرائيلي كأحد أهم أدوات استتاب الأوضاع السياسية في بلاده، وتحصين نظامه ضد أي حركات احتجاجية أو حتى قيام قوى معارضة، ومن هنا وعندما استشعر نظام بشار الأسد أن خطراً بدا يلوح في الأفق بعد تزايد حمي الاحتجاجات الشعبية في البلاد العربية لجأ ـ مرة أخرى ـ لحيلة المفاوضات مع الكيان الصهيوني، رغم أن المفاوضات بشأن هضبة الجولان تكاد تكون معدومة منذ زمن، فقد ذكرت تقارير صحافية إسرائيلية أن الرئيس السوري أعرب عن استعداده لاستئناف عملية التفاوض السلمي مع إسرائيل. ونقل الأسد هذا الموقف عن طريق وفد من الكونغرس الأمريكي، يضم لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور جون كيري، الذي زار المنطقة خلال الأيام الأخيرة الماضية!.
المثير في الأمر أن موقف الأسد بشأن موافقته على المفاوضات جاء في ظل رفض عربي مطلق ـ سواء من دول الممانعة أو حتى دول الاعتدال ـ، وذلك بعدما وئدت الولايات المتحدة الأمريكية عملية التسوية في الشرق الأوسط تماماً، واستخدمت حق النقض الفيتو ضد مشروع القرار العربي في مجلس الأمن بشأن ادانه الاستيطان الإسرائيلي، رغم الإدانات الدولية، وهذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هناك تخوفاً كبيراً من قبل النظام السوري من أن تمتد الاحتجاجات إلي عرشه.
ورغم أن سوريا تُحسب على ما يسمى بدول الممانعة، إلا أن الإدارة الأمريكية ومعها بالطبع إسرائيل يهمهما في المقام الأول أن يستمر النظام السوري، دون تغيير، فهل هناك أفضل من نظام كل انجازاته بشأن مفاوضات الجولان ـ وعلى مدار أكثر من أربعين عاماً ـ اقتصرت على جلسات ودية لا أكثر، ساعدت الكيان الصهيوني على تثبيت أوضاعه في الهضبة وخلقت أمرا واقعا، أصبح يقيناً لدى قطاع كبير من دول العالم الخارجي، بل لا نبالغ إذا قلنا وفي داخل الوطن العربي نفسه، فكثير من الأشبال العربية الجديدة لا تعرف أن هناك أرضا سورية مازالت محتلة !
أما إذا أصبحت سوريا هي ورقة الدومينو الجديدة التي حان دورها، فالأمر سيصبح مختلفا تماماً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فبينما استطاعت واشنطن التكيف حتى الآن مع ثورتي تونس ومصر، إلا أن نظاما جديدا يُخلق في سوريا يعبر عن إرادة شعبها، سيجعل الأمور أكثر تعقيداً، وبلا شك فإن معادلة الصراع العربي الإسرائيلي ستتغير تماماًً، خاصة من الجانب السوري.
* وحدة الدراسات المتخصصة ـ مركز البحوث والدراسات
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق