Facebook

الحوار بين الثقافات، الأخلاقيات و الشروط الغائبة *



"إن المبادرات المتعددة، التي تمت عبر التاريخ البشري، لنقل القيم الإنسانية الأخلاقية العليا، إلى أرض الواقع السياسي،طموحاً إلى اختبارها و تحقيقها، اصطدمت دائما بالتناقضات الصارخة، و كان مآلها الفشل الذريع... و ما فشلُ أفلاطون، و الطوباويين، و أصحاب المدن الفاضلة تِباعا، سوى أمثلة و عِبَر ناطقة في هذا المجال"

نقترح في هذه المقالة، التفكير في إشكالية حقوق الإنسان، من منظور علاقتها بالأخلاق و بالسياسة. و سينصب اهتمامنا بشكل خاص، على إثارة بعض القضايا العامة، نفترض أن لها صلة بعناصر هذه الإشكالية.

1. بداية نقول إن الأخلاق مجموعة من المبادئ والقيم والقواعد العامة، لتوجيه السلوك البشري داخل المجتمع، نحو تحقيق ما يُعتقد أنه الخير، و تَجَنُّب ما يُنظر إليه على أنه يُجَسِّد الشر. و غاية الأخلاق، هي في نهاية المطاف تحسين العلاقات بين البشر، و إعطاءُ الحياة البشرية معنى يُساعد على الحفاظ على قدر من التماسك الاجتماعي، بالرغم من وجود الفوارق و التناقضات، داخل المجتمعات البشرية وبينها.

والقيم و المثل الأخلاقية العليا وُجِدَت في جميع المجتمعات البشرية، حتى في تلك التي توصف أحيانا بالبدائية. و لكن هذه القيم لا تُعبِّر عن حقائق موضوعية و كونية، بقدر ما هي دالة على آمال و أماني و مخاوف بشرية، لا شك أنها تختلف في الزمان و المكان. والعديد من المفاهيم الأخلاقية يصعب تفسيرُه و تبريرُه، بدون الإحالة إلى مرجِعِيَّة دينية أو مرجِعِيَّة سياسية. نستشهِدُ هنا برأي للفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، ورد ضمن كتابه في الأخلاق و السياسة، (1946) : " إن القيم الأخلاقية، و خلال التاريخ المكتوب كله، كان لها مصدران مختلفان تماما: أحدهما سياسي و الآخر ديني".

أمَّا السياسة فَتُعَرَّف بأنها فن إدارة و تدبير الشؤون العامة للدولة و توجيهها؛ و أساليبُ قيادة الجماعات البشرية، و تنظيم العلاقات بين الأمم. كما َتُعَرَّف أحيانا بأنها فن تقنين و تنظيم استعمال و ممارسة السلطة في المجتمعات البشرية. و على غرار الأخلاق، فإن للسياسة أيضا قواعدها و قِيَمَها، و هي تتميز عادة بأنها أكثر التصاقا بالواقع. و مهما تعددت و اختلفت التعاريف المعطاة لمفهوم السياسة، فهناك مسألة واحدة على الأقل، أصبحت تشكل البداهة بعينها، و قد أبرزها المفكر السياسي الإيطالي مكيافيللي، عندما أكد في كتابه "الأمير"، أن السياسة لا تخرج عن فن إدارة المصالح الذاتية و الجماعية خارج الاعتبارات الأخلاقية و المعيارية.

و بالنسبة لمفهوم "حقوق الإنسان "، نحيل إلى التعريف الوارد في كتاب التربية على حقوق الإنسان، الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1989 : "يمكن تعريف حقوق الإنسان تعريفا عاما بأنها تلك الحقوق المتأصلة في طبيعتنا، والتي لا يمكن بدونها أن نعيش كبشر. فحقوق الإنسان والحُريَّات الأساسية، تتيح لنا أن نُطوِّر و أن نستخدم بشكل كامل، صفاتنا البشرية و ذكاءنا و مواهبنا و وعينا؛ و أن نلبي احتياجاتنا الروحية وغيرها من الاحتياجات. و تستند هذه الحقوق إلى سعي الجنس البشري المتزايد، من أجل حياة تتضمن الاحترام و الحماية للكرامة المتأصلة و القيمة الذاتية للإنسان".

2. بين حقوق الإنسان، و الأخلاق و الفلسفة، علاقة وطيدة. تتمثل هذه العلاقة قبل كل شيء في أن الأسس التي بُني عليها صرح حقوق الإنسان، هي أسس فلسفية وأخلاقية؛ و أن تطوُّرَ الحقوق بصفة عامة، يتم دائما تحت تأثير دوافع أخلاقية، تُعْطى لها في أغلب الأحيان أبعاد كونية. إن حقوق الإنسان هي مبادئ في شكل صيغ، تُعبِّر عن حاجات بشرية تلتف كلها حول موضوع الكرامة الإنسانية. إنها صوت الضمير الأخلاقي الإنساني، داخل الميدان الاجتماعي و السياسي. و نحن نذهب إلى أبعد من ذلك و نقول، إن التساؤل عن ماهية حقوق الإنسان، و عن الأسس النظرية التي تقوم عليها، و عن مبررات و أسباب الدعوة إلى احترامها، هو في عمقه تساؤل فلسفي. و نضيف إلى ذلك أن الأطروحة القائلة إن الكائن البشري غاية في حد ذاته، يتمتع بالعقل، و بالإرادة، و بالحرية، و يملك قابلية للتحَسُّن، و له ضمير أخلاقي، و قادر على القيام بالواجب و تحمل المسؤولية، و عنده ميل فطري للتعاون و التضامن مع بني جنسه...؛ هي أطروحة تُوجد في صُلب الأخلاق و في صُلب فلسفة حقوق الإنسان. و ليس من باب الصدفة وحدها، أن يكون أغلب الرواد المنادين بالجيل الأول من هذه الحقوق، كانوا من الفلاسفة؛ من فلاسفة عصر النهضة، و من فلاسفة القرن السابع عشر، و بصفة خاصة، من فلاسفة عصر الأنوار، الذين قالوا "بالحق الطبيعي"، و بدولة الحق و القانون، و بالنزعة الإنسانية الكونية.

و لا نبتدع جديدا إذن، عندما نُذكِّر بأن الإرهاصات الأولى لحقوق الإنسان، نَبَتَت في حقل الفكر الفلسفي و الأخلاقي، قبل أن تنخرط و تشق طريقها في الشِعاب الوعرة لأرض الواقع السياسي، المثقل بالتناقضات. و أن المبادرات المتعددة، لنقل القيم الأخلاقية العليا إلى أرض الواقع السياسي، طموحاً إلى اختبارها و تحقيقها، اصطدمت دائما بالتناقضات الصارخة، و كان مآلها الفشل الذريع. و ما فشل أفلاطون، و الطوباويين، و أصحاب المدن الفاضلة تِباعا، سوى أمثلة و عِبَر ناطقة في هذا المجال. حدث ذلك في العصور الماضية، و لا نظن أن عصرنا الحالي سيشذ عن هذه القاعدة.

إن القيم الأخلاقية عموما، و قيم حقوق الإنسان، عندما تُنقل إلى أرض الواقع الاجتماعي، تُواجه بالفعل، تناقضات بين مضامينها السامية من جهة، و من جهة ثانية، بين وقائع وحقائق السياسة في عالم اليوم، التي لا تفتأ تُكَـذِّبُها باستمرار، و تُكَبِّدُهَا هزائم تلو الهزائم. إنها تَواجِه تناقضات فاضحة بين الاعتراف "العالمي" بهذه الحقوق، على المستوى النظري طبعا، وبين تَعَرُّضِها باستمرار، على مستوى الواقع الفعلي، للخرق و للانتهاك في أنحاء عديدة من العالم.

إن التناقضات التي تصطَدِم بها قيم حقوق الإنسان، في أرض الواقع الاجتماعي و السياسي، رغم أنها مُحْبِطة ومُخَيِّبة للآمال، تكاد تصبح مألوفة لدى الجميع، و كأنها أحد الثوابت البارزة في علاقة الأخلاق بالسياسة. إن تطبيق القيم الأخلاقية على السياسة، كان و لا يزال عسيرا جدا، إلى درجة غدت معها المبادرات في هذا السبيل، و في جُلِّ الأحيان، محاولات يائسة لا فائدة تُرجى منها. فالاعتبارات الأخلاقية قلما تجد آذانا صاغية في خضم الصراع السياسي. و فضلا عن ذلك فإن أغلب الدول المُهيمنة على المجال السياسي في عالم اليوم، و على رأسها تلك التي يُفتَرَض أنها راعية تلك الحقوق، لم يعد لديها أي وازع أخلاقي حقيقي، يحول بينها وبين السعي لتحقيق ما تعتقد أنه مصلحتها الخاصة، على حساب من تعتبرهم أعداءها، مهما كان الثمن.

إن المصالح الاقتصادية الكبرى، للدول المهيمنة في عالم اليوم، أصبحت وحدها القادرة على الدفاع عن "حقوق الإنسان" في العالم، و القادرة على صناعة الأسباب الكافية و "المشروعة"، لتبرير التصرُّف وفق ما تُسمِّيه الخير العام. و هذا المعطى السياسي العاري، يذكرنا بعبارة أخرى لبرتراند راسل، سابقة لأوانها بالتأكيد، لأنها وردت ضمن مقالة له نشرها في سنة 1946، أي سنتين قبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:

" طالما ظل البيض محتفظين بالتفوق سيدعون الناس من الأجناس الأخرى إلى حقوق الإنسان، و يقولون إن جميع البشر متساوون " .

3. و من يكون "إنسان حقوق الإنسان" ؟ حقا إنه لسؤال مُحْرج ! في حقبة سابقة تُوصَف بأنها إيديولوجية، عمَّ الاعتقاد بأن "إنسان حقوق الإنسان" ، يتجَسَّد و يتوَحَّد مع النموذج الثقافي للإنسان الغربي بصفة عامة: الإنسان الفرد، الذكر، الأبيض البشرة، وذو الأصل الأوروبي. و في ظروف و ملابسات تاريخية معينة، أضيفت إلى هذه الأوصاف عناصر أخرى: "إنسان حقوق الإنسان" هو الإنسان الأوروبي، الأرقى و الأذكى، و المتفوق، و الذي له الحق في نصيب الأسد من الحقوق، و لو استدعى الأمر أن تستثنى من هذه الحقوق و تُقصى، شعوب و ثقافات برمتها، لا تنتمي إلى الحضارة الغربية.

هذا التصور غيرُ المجاني،عن "إنسان حقوق الإنسان"، المُدَعَّم بما يكفي من القرائن التاريخية، يحفزنا على إثارة مزيد من الأسئلة المُحرِجة التي ترتبط بإشكالية حقوق الإنسان، و التي غَدَت كلاسيكية، لكثرة ما تَكرَّر طَرْحُها. نُجْمِلها في ما يلي:

هل يحق لنا القول إن حقوق الإنسان، كما هي منصوص عليها في وثائق الأمم المتحدة، تعبر عن انشغالات ومطالب كونية؟ وهل مفاهيم مثل: الحرية، المساواة، التضامن، المسؤولية، تحمِلُ نفس المعنى عند جميع الشعوب و في جميع الثقافات؟ و في عبارة واحدة، هل لمفهوم حقوق الإنسان بُعْدٌ كونيٌّ، أم أن الحقيقة تفرض علينا الإقرار، بأن هذه الحقوق هي نتاج حضارة خاصة، هي الحضارة الغربية؟ و بخصوص هذا التساؤل الأخير، هناك مفارقة تكمن في أنه سؤال لا يصدر عن معارضي الاعتراف بالطابع الكوني لحقوق الإنسان فحسب، و هم كُثْرُ، بل إنه يُثار كذلك من طرف مُنظري النظام العالمي الجديد، المتعصبين للأطروحة القائلة إن حقوق الإنسان ولدت من رحم الحضارة الغربية، و إنها امتياز لهذه الحضارة ووقف عليها، و إن الصراع من أجلها و باسمها، يُنذر باندلاع صراع مقبل بين الحضارات البشرية، قد يصعب تجنبه.

و يعد عالم الاجتماع و الاقتصاد الألماني ماكس فيبر ( 1864 - 1920 ) ،من رواد هؤلاء المنظرين. وله نظرية مشهورة، تُبْرِزُ الخصائص المميزة للحضارة الغربية، مُقارَنة بالحضارات البشرية الأخرى. و كتابه الأخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية، لا يزال يثير الجدل حتى الآن، و الأطروحة التي يتضمنها لم تفقد بعد من أهميتها، بل على العكس من ذلك اكتسبت أبعادا جديدة، و خاصة عندما عاد إليها في التسعينيات من القرن الماضي، منظرون أميركيون معاصرون، أشهرهم فرانسيس فوكوياما، و صامويل هنتنجتون. مضمون هذه الأطروحة أن "لا واحدة من حضارات العالم الأخرى، تحمل قِيَماً يمكن أن تكون خلاقة للعقلانية الحديثة، التي أسست العلم الحديث، و الرأسمالية، و الديموقراطية و حقوق الإنسان ". إن القيم الأخلاقية في الحضارات غير الغربية، و النظرة إلى العالم، و إلى الغاية من حياة الإنسان و وجوده، كل ذلك لا يهيئ تلك الحضارات لظهور قيم حقوق الإنسان الحديثة. و يفسر ماكس فيبر، هذا الامتياز الذي يزعم أن الحضارة الغربية تحظى به وحدها، بكون الحوافز النفسية و الدينية والثقافية، التي تتضمنها الأخلاق المسيحية البروتستانتية، تُعَدُّ من العوامل الحاسمة في نشأة النظام الرأسمالي و حقوق الإنسان.

و عندما نتذكر أن هذا الكلام، قيل في العقد الأول من القرن العشرين، يتضح لنا أن ماكس فيبر، بأطروحته هاتة، صار معدودا من بين الدعاة المبكرين لأطروحة الامتياز الاستثنائي للحضارة الغربية، ربما بدون أن يتوقع ذلك. و لكن الأمر على أية حال، لم يذهب به إلى حد استشراف المستقبل، و التنبؤ بأن هذا الامتياز، يمكن أن يتحول مع طلائع الألفية الثالثة، إلى عامل حاسم من عوامل الصراع الحضاري.

ليس في نيتنا غض الطرف عن كون التساؤل عن الطابع الكوني لمفهوم "حقوق الإنسان"، تساؤلا مشروعا، و له ما يبرره. ولكننا نعتقد أنه تساؤل قابل للأخذ و الرد، و للاجتهادات المتباينة؛ و أن مضامين "حقوق الإنسان"، و مهما قيل حول هذا الموضوع، تستجيب لحاجة مُلِّحَة عند جميع البشر، بل و لطموح إنساني عام يمكن أن نسَمِّيه قضية الدفاع عن الكرامة. و هذا الطموح تم التعبير عنه في صيغ مختلفة، في جميع الثقافات، و في جميع اللغات، و منذ أن وُجِدت المجتمعات البشرية. و إذا كانت هذه الحاجة المُلِّحَة، و ذلك الطموح المشروع ، يبدوان و كأنهما مُضاديْن للطبيعة نفسها، بسبب تناقضهما البَيّن مع قانون "الحق للأقوى" و "البقاء للأصلح"، الذي يحكم مملكة الطبيعة برمتها، بل و يخضع له تطوُّر المجتمعات البشرية ذاتها، حسب وجهة نظر نظريات الداروينية الاجتماعية؛ فانهما بالرغم من ذلك، يُعبِّرَان عن خصوصية الظاهرة البشرية، وعن الطبيعة الاجتماعية و الثقافية للإنسان. إن الطبيعة الاجتماعية والثقافية للإنسان هي في تقديرنا، العِلة المُوجِبة لمفهوم "حقوق الإنسان". و الثقافة كما يقول سيجموند فرويد، وُجدَت لِحماية الإنسان من الطبيعة. و في السياق نفسه يُمْكِن أن نضيف، لا مفر لنا من الإيمان بأن ثقافة حقوق الإنسان، وُجدَت في عالمنا المعاصر، لِحماية البشر من طبيعة الحَجْرِ، والاستبداد، والظلم، والاستغلال، و القهر، و الاحتقار، و المهانة.

4. و لا شك أنه كان من المؤمّل أن اتساع فرص الوصول إلى المعلومات، و سرعة التواصل التي توفرت، في مطالع الألفية الثالثة، بشكل مذهل، سيفضي إلى تدعيم مبادئ الديموقراطية، و تعزيز حقوق الإنسان على المستوى العالمي. و لكننا الآن و بعد انقضاء أزيد من نصف قرن على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لا زلنا غير متأكدين تماما بأن مبادئ هذا الإعلان، استطاعت تذويب الأحقاد بين الأمم والشعوب وتقريب المسافات فيما بينها، مع أنه من المفروض أن هذه المدة كانت كافية لأن تتحول إلى ثقافة إنسانية كونية . و جميع القرائن المتوفرة اليوم، تظهر أن حلم البشرية في عالم تسوده قيم العدل و الإنصاف و التسامح و التضامن، لا يزال بعيد المنال.

إن كثيرا من المهتمين بقضايا حقوق الإنسان في عالم اليوم، الذين أتيحت لهم فرص المشاركة في مؤتمرات و ملتقيات دولية حول هذا الموضوع، لم يتوانوا عن إثارة الانتباه، و أحيانا بكثير من الحسرة و الأسف، إلى أن الوضعية الحالية في مجال تعزيز حقوق الإنسان على المستوى العالمي، تتسم بالإحباط و خيبة الأمل، بسبب ما تتعرض له هذه الحقوق من انتهاك، و استغلال، و انتقاء، و تشويه، و استخدام معيار مزدوج للحكم و للتقييم في شأن احترامها، أي الكيل بمكيالين، كما يقال. و كأنما البشرية صنفان؛ صنف ممتاز جدير بالحماية و الرعاية ، و صنف منحط لا يستحق إلا الإقصاء و الازدراء.

و من المؤسف حقا، أن يتم التعامل مع الانتهاكات التي تتعرض لها هذه الحقوق، على أساس المصالح الاقتصادية و السياسية أولا وقبل كل شيء؛ وأن يصبح الدفاع عن هذه الحقوق شعارا، يوظف أحيانا كسلاح إيديولوجي ضد شعوب معينة و حضاراتها، لأنها تتبنى سياسات و توجهات غير منسجمة مع مصالح الغرب. و أحيانا أخرى يتم السكوت عن الانتهاكات السافرة و اليومية، التي تتعرض لها هذه الحقوق في دول أخرى. و لعل ما يقع اليوم على أرض فلسطين و العراق نموذج يندى له جبين البشرية في "عصر حقوق الإنسان ". و الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعطي لنفسها حق الكلام باسم قيم الحضارة الغربية في عالم اليوم، تعد من أبرز الدول الكبرى، التي تستعمل هذا المعيار المزدوج. فهي عندما تتحرك للضغط أو للضرب، فليس ذلك من أجل دواعي حقوق الإنسان فحسب، و إنما لأن مصالحها الاقتصادية المهمة تكون مهددة. و كل خطاباتها حول الديموقراطية، حقوق الإنسان، تبدو ثانوية بالمقارنة مع تلك المصالح.

و هكذا صِرْنا نلاحظ بالفعل، و عن كثَب أنه، مِثلما استُثمِرت و استُغِلت قِيَمُ الحرية و المساواة و الإخاء و الاشتراكية، و غيرها من القيم الإنسانية النبيلة، ها هي اليوم حقوق الإنسان تتمرغ في وحل الصراعات السياسية الداخلية و الخارجية، و تتحول تدريجيا، من مبادئ أخلاقية إنسانية متعارف عليها عالميا، إلى استراتيجية سياسية للهيمنة، بل أحيانا للتدخل السياسي و العسكري، في شؤون الدول الأخرى. و ما الخطاب المحموم السائد في أيامنا هاته، عن "العدالة المطلقة "، وعن "محاربة الشر" على المستوى العالمي، وعن "نشر الديموقراطية"، إلا نموذج حي عن هذا النزوع العارم و المجنون، إلى تسييس الأخلاق، بطريقة سافرة و فجة.

نختم هذه المقالة بالقول إن التناقض بين الخطاب عن حقوق الإنسان، وبين ممارسات مُصَدِّري هذا الخطاب، بين الشعارات الجذابة، و بين الواقع الذي نكتشفه بالملموس، في تجاربنا و في علاقاتنا مع دول الغرب، راعية هذه الحقوق من حيث المبدأ على الأقل؛ إن هذا التناقض لا يلغي حقيقة أن مفهوم حقوق الإنسان، صار يكتسب بالتدريج بعداً إنسانيا كونيا، رغم أن البيئة الأولى التي نبت فيها معروفة، و يمكن تحديدها في الزمان و المكان. و رغم أنه لا يغيب عن بالنا تماما، أن هذه الحقوق ليست حقوقا طبيعية، كما أنها ليست مبادئ و لا قيما لازمانية. لقد تم الإعلان عنها، و أُقِرَّت و فُرِضَتْ بالتدريج، في رقعة جغرافية معينة، و في حقبة معينة من تاريخ البشرية. و من المؤكد أنها كانت من قبل مَتَجاهلة و منكورة تماما. و إحقاقها و تحويلها إلى مكتسبات إنسانية غالية، لم يكن بالأمر الهَيِّن، إذ تطلب بذل تضحيات باهضة، و خوض صراعات شاقة و طويلة، بل و دموية في أغلب الأحيان.

وعن السؤال الأخلاقي و الفلسفي: هل يعد الاحترام العالمي لحقوق الإنسان و للحريات الأساسية ضرورة ملحة، نجيب نعم! إن معطيات المرحلة الحالية من تطور السياسة الدولية، تفرض علينا أن نؤمن بهذه الحقوق إيمانا راسخا، و أن نجعل منها سلاحنا لتخليق السياسة، و إلا فإننا ستهزم باستمرار أمام قانون الطبيعة الذي لا يرحم. بدون الإيمان بأن حقوق الإنسان قيم ذات بعد كوني، فإن النضال من أجل هذه الحقوق سيفتر، و يفقد بالتأكيد حيويته و حوافزه الأساسية. و هذا الموقف في حد ذاته، قد يبدو للكثيرين، موقفا مثاليا بل طوباويا، لا يمكن أن تُجْنى منه إلا خَيْبَـات الأمل واليأس. و لكننا نعتقد أنه، رغم مثاليته، يعبر عن حقيقة إنسانية، يتأكد يوما عن يوم أنها تتجه إلى أن تصبح استراتيجية إنسانية على المدى الطويل. ذلك لأنها تُجَسِّد أغلى ما يمكن أن يطمح إليه الإنسان ككائن أخلاقي و ينشده، و لكن بدون أن تمكنه من تحقيقه كاملا، مناورات السياسة، و صراع المصالح، وربما أيضا، رواسب النزعة العدوانية الكامنة في أعماق الإنسان كما يقول سيجموند فرويد. إن حقوق الإنسان، و على غرار ما قاله فيلسوف الأخلاق إمانويل كانط، في سياق آخر مماثل، أضحت تشكل مسلمات الفكر الأخلاقي المعاصر.



Share on Google Plus

About Unknown

This is a short description in the author block about the author. You edit it by entering text in the "Biographical Info" field in the user admin panel.
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

أضف تعليق