Facebook

الفوضى الإستراتيجية الأميركية فى الشرق الأوسط


همس مستشار غورباتشوف المدعو جورجي آباتوف في أذن أحد المسؤولين الأميركيين بالعبارة التالية :" إننا نصيبكم بخطب جلَلٍ فنحن نجردكم من العدو.."وفي نشوة النصر فإن مثل هذه العبارة لا تترك أي صدى سوى الظن بأنها محاولة تعويضية للموقف السوفياتي الضعيف. ثم انتهت الحرب الباردة وانـهار جدار برلين ليخلّف وراءه عالماً شديد الإختلاف إلى حدٍّ يصعب استيعابه فقد تحولت دول الكتلة الشرقية إلى دول وطنية وتفكك الإتحاد السوفياتي إلى جمهوريات نفضت عنها ثوب الشيوعية لترتدي الأثواب الوطنية التي كانت ترتديها قبل ثورة أكتوبر 1917. وهكذا بدأت النهاية بفوضى جغرافية لا مثيل لَها في تاريخ البشرية وكان من الطبيعي أن تَمتدّ أصداء هذه الفوضى إلى دول العالم التي كانت موزعة بين الجبارين. وبِمعنى آخر فإن الفوضى تحولت إلى عالمية. مِمّا أغرى الدول القومية في كل منطقة للتحرك لِملء الفراغ الذي خلّفته الشيوعية.  وهذا التحرك لم يكن على صعيد التسلح والأعمال العسكرية فقط بل تعداه إلى صعيد التحرك للسيطرة الاقتصادية. وأخطر من هذين التحركينِ ذلك التحرك الساعي لتكوين تجمعات عرقية. وهذه التحركات تفجّر بعضها بشكل مباشرٍ في حين يَعِدُ بعضها بالتفجر لاحقاً. مِمَا يجعل العالم في حالة الفوضى الاقتصادية والعسكرية والجغرافية. 
        أمام هذه الفوضى المتعددة الصعد كان لا بد للولايات المتحدة من إيجاد صيغ تكتيكية للتعامل مع الواقع الجديد. وهي قد أجادت في وضع هذه الصيغ لكنها افتقدت فجأة للرؤية الاستراتيجية الطويلة الأمد لمصالحها ولدورها في العالم. وفقدان هذه الرؤية يجعل من مصطلح "النظام العالمي الجديد" عبارة بدون مضمون. بل أنّ هذا المصطلح يكاد يتطابق مع مصطلح سابق له تاريخياً وهو مصطلح الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي لم تكن لا إمبراطورية ولا رومانية ولا مقدسة !. فهل تصح مثل هذه المقارنة؟. لنأخذ أولاً كلمة 
"نظام" حيث نجد عالَمَ ما بعد الحرب الباردة مزروعاً بالنِّزاعات فنعدد :
1- أزمة ناغورني-كاراباخ  (أذربيجان  أرمينيا) 2- حرب عاصفة الصحراء 
3- حرب البوسنة - الهرتزك 4-حرب كوسوفو 5- صراع القبائل الأفريقية و6- العنف الجزائري و7- أزمة كشمير 8- أزمة تايوان 
 الخ.
والولايات المتحدة لم تكن مجرد متفرج في هذه النّزاعات أو مجرد متدخلٍ (أو حتى طرف) لِحلّها. بل هي عانت من أنعكاساتِها داخل الولايات المتحدة نفسها ولعل انفجار أوكلاهوما أحد أخطر الأمثلة حيث يتساءل هنتنغتون في مقالته "تآكل المصالح الأميركية" عن إمكانية حدوث مثل هذا الإنفجار لو كان للولايات عدواً ما ؟! حيث يخلص هنتنغتون لمعادلة قوامها : استحالة توجيه المصالح الأميركية (وضع استراتيجية متماسكة) في غياب العدو. مِمّا يعني ضمناً اعتراف هنتغتون بغياب مثل هذه الإستراتيجية.  وتردّدت تُهمة الغياب هذه على لسان المستقبلي الفرنسي جاك آتالي إذ يقول : "إن إدارة كلينتون تريد أن تفرض حلولاً مؤقتة ومتخيلة لا ترتكز إلى رؤية استراتيجية متماسكة" وفي الإتجاه عينه يقول غور فيدال بأن إدارة كلينتون تتجنب إتخاذ خيارات واضحة أو تقديم رؤية كلية متماسكة. وحول هذا الإطار تتوالى الإنتقادات للسياسة الأميركية من داخل الولايات المتحدة وخارجها. ولكن دون أن يعني ذلك إهمال النّجاحات الاقتصادية التي حققتها إدارة كلينتون وهي نجاحات أكيدة وملموسة وأن كانت تستند إلى صيغ تكتيكية غير قابلة للإعتماد كاستراتيجية. وبعضهم يعتبر أن فقدان الإستراتيجية يدفع بالإدارة الأميركية للتعامل مع الأزمات من مبدأ : علاج كل حالة بحالتها (Case by Case). وفي ذلك ثغرة خطيرة لأن الكلّ يختلف عن مجموعة الأجزاء. فإذا ما عدنا للأخطار الأميركية الداخلية، التي أشار إليها هنتنغتون، أمكننا القول بأن الصيغة التكتيكية التي يعتمدها كلينتون هي تصدير الفوضى إلى العالم حتى لا تتفجر داخل بلاده. وهذا يفسر العديد من المواقف الأميركية في قيادة المفاوضات وإيصالها للطرق المسدودة التي يعقبها الطوفان. ومن الخطأ تجاهل الخوف الأميركي من الفوضى الداخلية خصوصاً بعد أن نعرف بأن الحكومة الفيدرالية تنفق ستة مليارات دولار سنوياً لمكافحة الإرهاب الداخلي. وهو ضعف المبلغ الذي وفرته من خفضها للمعونات الخارجية بعد انتهاء الحرب الباردة. إذ تدنت هذه المعونات من اثنَي عشر مليار دولار إلى تسعة مليارات دولار سنوياً(1). ولنأخذ كلمة "عالَمي" فنجد أن تناقضات الداخل الأميركي تتحدى هذا التعبير فالميليشيات الأميركية البيضاء (المسؤولة عن انفجار أوكلاهوما) تطالب بسيادة الجنس الآري (الأبيض) وطرد الساميين والملونين(2). وهو طرح تؤدي تداعياته إلى تَهديد النسيج الأميركي التعددي. وإلى عودة كل جماعة إتنية إلى قيمها الخاصة المتعارضة مع القيم الأميركية. ومن هنا الاستنتاج بأن تناقص القدرة الأميركية على استيعاب التعدّدية في داخلها يوازي استحالة تحويل قيمها إلى عالمية. وبالتالي فإن مقطع "العالَمي" يصبح بدوره كلمة من غير مضمون ونأتي إلى كلمة "الجديد" حيث العجز الأميركي عن إنتاج استراتيجية جديدة ملائمة للواقع العالَمي الراهن، يعني أن الجديد لم يحن أوانه بعد؟ والفوضى قديمة قدم التاريخ نفسه وبناء عليه فإن "النظام العالَمي الجديد" ليس بالنظام ولا بالعالَمي ولا هو بالجديد.
2-                                     الشرق الأوسط وصدام الحضارات
 عندما يطرح الإسلام كعدو حضاري فإن الجمهور الغربي يفسر هذا الطرح عبر دلالاته الخاصة إذ يعتبر هذا الجمهور أن كل دولة إسلامية هي دولة عربية بما يعادل القول بأن صدام الحضارة الغربية سيكون صداماً مع قوميات دينية (العرب والصينين). بهذا يحتفظ هذا الطرح بعضوية كافة دول الشرق الأوسط في نادي العداء لأميركا (باستثناء إسرائيل اليهودية) وللغرب عموماً. وهكذا فإن عضوية النادي تضم بالإضافة للدول العربية (بما فيها فلسطين  حماس) كلاً من تركيا - وإيران وأفغانستان وباكستان وصولاً إلى الصين. دون إهمال الحزام الأوراسي المسلم (جهموريات سوفياتية مسلمة سابقة). وهكذا فإن مقولة صدام الحضارات تنعكس أول ما تنعكس بتغيير الدلالة الديموغرافية لمصطلح الشرق الأوسط لتحوله إلى دلالة الشرق المسلم. بما في ذلك من توسيع لرقعته الجغرافية. وهو توسيع يجد تبريره في تغيير جغرافية المصالح الإستراتيجية لدول المنطقة في فترة ما بعد الحرب الباردة. حيث نلاحظ رغبة كل دولة في تأمين مصالحها الإستراتيجية في هذا الفراغ ونعدد :
1-                      1- تركيا: التي تحاول ملء الفراغ في جمهوريات آسيا الوسطى ذات الأصول التركية ولدى الأقلّيات التركية في دول أوروبا الشرقية ومنها ألبانيا المسلمة .
2         2- ايران : التي احتوت أعداد كبيرة من الأذربيجانيين هاجرت إليها عقب قيام الدولة الشيوعية. والتي تجد لنفسها حقوقاً في كافة جمهوريات آسيا الوسط المتاخمة لحدودها. كما في أفغانستان والدول التي تحوي أقلّيات شيعية.
--3             اسرائيل: التي تطالب بحصتها في ثروات آسيا الوسطى وتتخذ من تحالفها مع تركيا مدخلاً لتأمين هذه المصالح لكلا البلدين.
4-             الدول العربية : الباحثة عن تحالفات جديدة لِحماية ثرواتها من الاستنـزاف وهكذا فإن حدود الشرق الأوسط الجغرافية تشهد توسعاً لا يمكن للتسمية أن تستوعبه. كما تشهد المنطقة احتمالات تصادم المصالح في ما بينها لدرجة يمكنها أن تصل إلى حدود التفجير. ولو كانت فرضية "صدام الحضارات" قابلة للاعتماد والتصديق لكانت قارب نجاة لِهذه الدول وحماية لَها من تفجر صراعاتِها الخارجية والداخلية على حد سواء. ولا نستثني إسرائيل كونَها أكثر دول المنطقة استفادة من هذه المقولة.
وهذه الوقائع تدفعنا للتساؤل عما إذا كان من الممكن احتواء صراعات المنطقة و الحؤول دون تفجرها لنجد أنفسنا في شرق أوسط مُمتد ومتجاوز لِحدوده الجغرافية ؟
أم أن الصراعات ستفجر هذه المنطقة لتحدث فيها تغييرات جذرية يصعب تحديدها بدقة؟ وهنا نجد أمامنا احتمالات متعددة :
‌أ-              أن تتابع الولايات المتحدة إثارة مشاكل الأقليات في المنطقة فتقضي بذلك على توازنها الديموغرافي الراهن. بِما ينْزع عن المنطقة طابعها الإسلامي أو العربي المهيمن. فتصبح قادرة على استيعاب الحاقات جيوسياسية تمهد الطريق أمام شرق أوسطية ممتدة وغير قادرة على رفض عضوية إسرائيل ؟
‌ب-            أن تركز الولايات المتحدة على مصالحها في آسيا الوسطى (حيث بلغت  استثماراتها حدود الـ 200 مليار دولار) فتعمد إلى إلْهاء الدول المتاخمة لآسيا الوسطى بجملة مشاكل داخلية تجعلها عاجزة عن تَهديد هذه المصالح ؟ وبذلك تمتنع عن استمرارية الشراكة مع إسرائيل. مقابل ضمان أمنها بتسوية مع العرب أو بالحفاظ على تفوق عسكري يبقيها في إطار حرب باردة معهم.
‌ج-             أن تسعى الولايات المتحدة لاستغلال القبول السياسي الذي لم يسبق لَها و أن تمتعت به في دول المنطقة لتحول كامل المنطقة إلى حزام أمني في مواجهة الخطر الأصفر سواء كان صينياً أو يابانياً ؟ مع ما يتيحه ذلك من استفادتها من ثروات المنطقة ؟ مع تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة عولمة نموذجية ؟
ومهما يكن فإن غموض مستقبل المنطقة مرتبط بغموض الإستراتيجية الأميركية فلو نحن تحرينا أوضاع المنطقة ما بعد حرب "عاصفة الصحراء" لوجدنا أنّها شديدة السوء بالمقارنة بفترة ما قبلها. وهذا يشكل إدانة جماعية، من أطراف متناقضة، للسياسة الخارجية الأميركية. فعداك عن الخسائر الخليجية الفادحة والانْهيار العراقي فإنك تجد أن الانعكاسات الاقتصادية لِهذه الحرب تؤثر على دول الجوار الجغرافي وعلى دول العمالة البعيدة عن المنطقة. دون تجاهل العواقب التفككية لِهذه الحرب. حيث أدت لوضع مشاكل دول الشرق الأوسط الداخلية على نار متقدة . حتى بتنا نلاحظ علائم التفكك وكأنّها تنتظر الفرص حتى تنفجر.
ويكفي أن نذكر في هذا المجال الأزمات التالية :
‌أ-                 احتمالات تقسيم العراق والتي تولد انقسامات عنقودية في أرجاء المنطقة في حال حدوثها.
‌ب-            أزمة الأقلية الشيعية في الخليج (البحرين والعراق خصوصاً).
‌ج-              أزمة الجزر الثلاث بين الإمارات وإيران.
‌د-                أزمة المياه مع تركيا.
‌ه-                 توجه المعارضة الداخلية باتجاه لعب دور السلطة الموازية وليس البديلة.
وهذا دون أن نذكر الإزمات المزمنة للمنطقة والتي عادت للظهور .
أما إسرائيل فقد تضررت بدورها من عاصفة الصحراء فهي وأن حققت فائدة اقتصادية منها فإنّها قد أفقدتْها دور الناطق باسم الولايات المتحدة والمدافع عن حقوقها في المنطقة. وهو دور طالما أحسنت إسرائيل استغلاله. وتلازم فقدان هذا الدور مع الحد من صلاحيات إسرائيل وتعرضها لضغوطات أميركية لم تتعرض لِمثلها منذ مشاركتها بالعدوان الثلاثي عام 1956. وانعكس ذلك في داخل إسرائيل بتصاعد تأثير الأصولية اليهودية واغتيالِها لرابين وإتيانِها بنتنياهو الذي صرح أن هنالك 4 إسرائيلات وليس إسرائيل واحدة في إشارة له إلى تفجر التناقضات الإسرائيلية  الداخلية. وها هو باراك يعود بإرادة أميركية ليكمل دور رابين وليتعرض لعدة محاولات اغتيال لم يعلن عنها بعد لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل السلام بالنسبة لأميركا هو مسألة استراتيجية أم مجرد صيغة تكتيكية ؟ وبالتالي هل هو سلام ؟ أم تسوية ؟ أم حرب باردة ؟
3-                                     الموقف الأميركي من السلام الشرق أوسطي
أن تحديد هذا الموقف يقتضي أولاً الإجابة على الموقف الأميركي من صدام الحضارات. فكما أسلفنا فإن هذا الصدام يعني الصدام مع كافة الدول الشرق أوسطية وبالتالي فإن الإحتواء الأميركي لِهذه الدول يصبح ضرورياً. وإسرائيل هي أداة الاحتواء  المفضلة. وفي هذه الحالة فإن السلام يفقد مبرراته في ظل الحماية الأكيدة للمصالح الأميركية في المنطقة (عبر تواجد قوات أميركية فيها).
وكان الرئيس كلينتون قد أعلن رفضه لِهذه المقولة(3) وبالتالي إسقاطها من الحسابات الإستراتيجية الأميركية(4). ويحق لنا أن لا نخشى تغيير الرئيس الأميركي القادم لهذا الموقف وذلك لعدة أسباب أهمها :
1-                                      أن السيطرة اليهودية في الإدارة القادمة لن تكون أكبر أو أكثر تأثيراً منها في إدارة كلينتون الثانية .
2-                                      أن الإسلام لا يمكنه في المدى المنظور أن يشكل خطراً حقيقياً على المصالح الأميركية.
3-                                      أن صدام الحضارات ليس سوى شائعة (سنشرح ذلك لا حقاً).
فإذا ما حق لنا بعد ذلك إسقاط مقولة الصدام مع الإسلام، وأضفنا إليه الرغبة الشخصية الملحة لكلينتون كي ينهي عهده بمثل هذا الإنجاز، يحق لنا التأكيد على وجود موقف أميركي حاسم لتحقيق السلام العربي  الإسرائيلي ( عبر تسويات تتلائم وواقع القوة الإسرائيلية).لكن سيرورة السلام على طريقة كلينتون هي سيرورة من نوع خاص بحيث لا يمكن لأحد أن يتوقع من الرئيس المقبل اعتماد طريقة الحكم التفاوضي التي يعتمدها كلينتون. وتتجلى طريقة كلينتون بالتورط في المفاوضات والدخول طرفاً ضاغطاً باتجاهين. فيها وفي النهاية فإنه ينحاز للطرف الأكثر خضوعاً لضغوطاته. فهو قد أجبر الفلسطينيين في واي بلانتيشن على تقديم تنازلات تحرجهم أمام الرأي العام العربي والفلسطينِي في حين امتنع نتنياهو عن التجاوب ثم عاد وتراجع عن التنازلات المحدودة التي قدمها. وعندها بلغ التورط الشخصي لكلينتون حدود إعلان العداء لنتنياهو مع زيارة مجاملة للسلطة الفلسطينية.
أما في مفاوضات "رامبوييه" المتعلقة بكوسوفو فقد ضغط كلينتون على إبراهيم روغوفا (ممثل الكوسوفيين الألبان) وقاده إلى تنازلات هزت صورته لدى الكوسوفيين ولما رفض الصرب تقديم تنازلات مقابلة كانت حرب كوسوفو وإعلان كلينتون عن ضرورة القضاء على شخص ميلوسوفيتش.
والمشكلة الآن أن ما تبقى لكلينتون في البيت الأبيض لن يكون كافياً لإنجاز مهمة السلام وهذا سوف يسبب له إحباطاً قد يؤدي به لاتخاذ خطوات انتقامية من الطرف الأقل خضوعاً لضغوطاته. ولكنه على أية حال سيترك المهمة للرئيس المقبل الذي سيواجه خطر نهاية الفوضى الاصطناعية (أو ما سبق أن أسميناه تصدير الفوضى. الذي أجاد كلينتون لعبته وحقق المكاسب الاقتصادية لبلاده عبره) كما سيكون اهتمامه منصباً على حماية المصالح الأميركية في أماكن أخرى من العالم (دول بحر قزوين خصوصاً) وأيضاً فإنه لن يكون مستعداً لاعتماد طريقة كلينتون التورطية الأمر الذي سيتيح لإسرائيل هامشاً واسعاً للمناورة. فإسرائيل ترفض توقيع السلام في عهد كلينتون. وذلك لجمله أسباب أهمها :
1-             أن السلام اليهودي مع العرب لا يمكنه أن يكون تكتيكياً لكونه اعترافاً ناجزاً بالأغيار (أي غير اليهود). وبالتالي فإن خطوة كهذه تقتضي التعرف الدقيق على حيثيات الإستراتيجية الأميركية (أقله حيال المنطقة) وبما أن هذه غائبة فإن إسرائيل سوف تماطل.
2-             كانت إسرائيل تتوقع تغيرات عميقة في الأنظمة السياسية لدول المنطقة. بل أنّها مساهمة فعالة في التخطيط لهذه التغيرات. وبالتالي فإنها تفضل التريث بانتظار مناخات أفضل. بل أن نجاحها في إعادة ترتيب المنطقة قد يساعد على تجنب كأس  السلام التي تفجر تناقضاتها الداخلية.
3-             كانت الشيوعية مبرر المعونات الخارجية الأميركية وبانقضائها انتفى هذا المبرر. وباتت الولايات المتحدة تسعى لإلغاء هذا البند. أو على الأقل تقليصه إلى الحدود الدنيا وعليه فإن تحقيق السلام العربي  الإسرائيلي سيريح الخزينة الأميركية من المعونات المقدمة لإسرائيل. ومن الطبيعي أن تسعى هذه الأخيرة للاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من هذه المعونات.
4-             أن حاجة إسرائيل (بعد السلام) للأسواق العربية سيحرمها من متعة الانغلاق على ذاتِها الأمر الذي يمكنه أن يشكل خطراً على تركيبتها الديموغرافية ذلك أن قسماً كبيراً من اليهود الشرقيين يحلم بالعودة إلى البلدان التي أتوا منها (خصوصاً اليهود الإيرانيين والمغاربة).
5-             أن السلام سيحرم إسرائيل من قدرتها على التحكم بالتكاثر السكاني الفلسطيني حيث تعتمد حالياً وسائل (منها هدم البيوت ومنع بنائها) لا يمكن اعتمادها بعد السلام.
6-             يمكن للسلام أن يعرض الاقتصاد الإسرائيلي لأزمات واختناقات يصعب التعامل معها بعد أن تعودت إسرائيل على اقتصاد المعونات. وهذا يعني دخول إسرائيل في سوق المنافسة وهو دخول قد يولد تناقضات وصراع مصالح بينها وبين بعض كبار الأثرياء اليهود.
خلاصة القول أن الفترة المتبقية من ولاية كلينتون ستشهد التجاذبات التالية :
1-   الرغبة الشخصية الجامحة للرئيس الأميركي لتحقيق السلام في الشرق الأوسط .
2-   محدودية صلاحيات الرئاسة الأميركية بالمقارنة مع الرغبة الشخصية لكلينتون.
3- تعويق الكونغرس الجمهوري لِجهود كلينتون الديمقراطي ومحاولة تأجيل السلام ليكون إنجاز الرئيس المقبل وحرمان كلينتون من هذه الفرصة.
4- المماطلة الإسرائيلية الهادفة لانتظار ظروف أفضل تخلقها المتغيرات القادمة في المنطقة. وذلك عن طريق الدخول في لعبة المسارات المتشابكة ولِهذه اللعبة حسنات وفوائد متعددة . فهي تتيح لإسرائيل إغلاق المنافذ على أحد المسارات لتفتح الحوار على مسار آخر. كما تتيح لَها إغراء كل مسار بتحقيق السبق مقابل تقديم تنازلات جديدة.
5- الإدارة الأميركية ، بالرغم من التناقضات المشار إليها أعلاه تنظر بعين العطف للشروط الإسرائيلية وتجد لِهذا التشدد مبرراً. وهو خوف إسرائيل من ابتلاع العرب لَها بعد السلام حيث علق أحد المسؤولين الأميركيين على ذلك بالقول بأن السلام سيحول إسرائيل إلى سوبر ماركت عربي.
وهذه التجاذبات ستجعل من إنجاز كلينتون للتسوية مهمة مستحيلة .
4-                                      الشائعات العالمية
تبدو نبؤة ألفين توفلر (مؤلف كتاب تحول السلطة) في طريقها إلى التحقيق وهي تقول بأن من يملك المعلومات يملك العالم. ولعل هذه الملكية تتجسد بقدرة مالكي المعلومات (وهم عينهم محتكرو الإعلام والاتصالات ) على إطلاق شائعات عبر بضعة جمل، وتحويلها إلى عالمية متداولة وفتح أبواب الجدال حولَها. بما يزيد من ترسيخ الشائعة وتحقيقها لأغراضها . حتى يمكننا الحديث عن تطور تقنية الشائعة يوازي تطور وسائل الاتصال الناقلة للمعلومات.
والتعريف التقليدي للشائعة يصفها بأنه قضية أو عبارة نوعية مطروحة للتصديق والتناقل من شخص لآخر دون أن تكون هنالك معايير أكيدة لصدقها.
أما عن شروط نجاح الشائعة فهي تختصر تقليدياً بمجموعتين من الشروط أو العوامل وهما: 1- الأهمية .2- الغموض.
هذا وتصنف الشائعة بحسب السيكولوجيين وفق معايير تصنيف مختلفة ومن أهم أصناف الشائعات نذكر :
‌أ-     الشائعة البطيئة : وهي تنتشر بصورة بطيئة ولكن على مدى زمني أوسع.
‌ب-            الشائعة الاندفاعية : وهي تنتشر بسرعة فائقة لاعتمادها على إثارة انفعالات قوية.
‌ج-      شائعات الأماني: ويتقبلها الجمهور دون تحري صحتها لأنّها تستجيب لأمانيه.
‌د-         شائعات المشاعر السلبية : من خوف وكراهية ورغبة في الانتقام .
هـ شائعة البعبع : وهي شائعة تثير الهلع  عند الجمهور ولا تترك له فرصة تحري صدقيتها .
و-الشائعة العنصرية : وتعتمد في انتشارها على المواقف العنصرية المسبقة.
ز-الشائعة الغاطسة : وهي شائعة تروج لمدة ثم تغطس لتعود فتطفوا إلى السطح من جديد في الوقت المناسب .
وبالانتقال إلى الشائعة الحديثة نجد أنها تتمتع بالمواصفات التالية :
‌أ-          إنّها تعتمد على عبارة نوعية (وليس على أحداث) تتجلى بمصطلحات يتم إطلاقها عبر وسائل الاتصال المتطورة حتى تثير أكبر قدر مُمكن من الجدال والتفسيرات المتضاربة المؤدية لزيادة انتشارها لغاية التعميم.
‌ب-        أن الغموض الذي يلف عالم ما بعد الحرب الباردة يخلق أجواء مناسبة لإطلاق الشائعات المرتبطة بالفوضى الناجمة عن نِهاية هذه الحرب .
‌ج-         أن أية شائعة تتعلق بترتيب أوضاع العالم الجديد تملك أهمية تدعم انتشارها لكن عصر المعلومات يحد من غموض الشائعة لأنه يسهل الحصول على المعلومات التي تزيل هذا الغموض فتؤكد الصدق أو تنفيه لذلك فإن الشائعة الحديثة تستغل الفوضى العالمية لتكتسب أهمية فائقة ولتثير الانفعالات وتتجنب أزمة افتضاح الغموض بلجوئها للطروحات المستقبلية التي لا يمكن الحكم على صدقيتها إلا بانتظار ما سيأتي به المستقبل.
ولما كانت المستقبليات تعتمد مبدأ الاستقراء التاريخ وتستمد منه طروحاتِها فإنه من الطبيعي أن تكون الشائعات المستقبلية مستندة إلى هذا الاستقراء وبالتالي فإنّها غالباً ما تكون غاطسة.
Share on Google Plus

About Unknown

This is a short description in the author block about the author. You edit it by entering text in the "Biographical Info" field in the user admin panel.
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

أضف تعليق