Facebook

أيام صلاح جاهين

بجهد عاشق سطر الصحفي الشاب محمد توفيق كتابه الأول "أيام صلاح جاهين"، متتبعا مسيرة حياة هذا الفنان منذ ذلك اليوم الشتوي من شهر ديسمبر 1930 الذي جاء فيه للدنيا وحتى رحيله عنها في أبريل 1986م.
قدم للكتاب الصادر عن دار "العين" للنشر، الشاعر بهاء جاهين الذي يقول عن والده "كانت له نظرية مازلت أعجب لها منذ أن أعرب لي عنها وأنا بعد مراهق قال: الفن جوهر واحد، ومن يمارس نوعا منه يستطيع إذا ركز ان يمارس الأنواع الأخرى، وربما كان هذا الاعتقاد نابعا من حالته الفريدة كظاهرة إبداعية شاملة ومتنوعة".
يتناول المؤلف في كتابه الواقع في تسعة فصول بالإضافة إلى ملحقين للوثائق والصور النادرة، قصة حياة جاهين منذ ميلاده في 25 ديسمبر 1930م وكان هو الإبن الأول لوالديه، أبوه هو المستشار بهجت حلمي الذي تدرج في السلك القضائي إلي أن أصبح رئيسا لمحكمة استئناف المنصورة .
جده هو الصحفي الكبير أحمد حلمي له بصمات عديدة في السياسة فقد كان رفيقاً للزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد، وأسس جريدة القطر المصري، وكان أول صحفي في مصر يذم في الذات الملكية في زمن الخديوي عباس حلمي، أما أمه السيدة أمينة حسن فكانت مدرسه وكانت تروى له القصص العالمية والأمثال الشعبية بأسلوب سلس لطالما عشقه، فعملت على غرس كل ما تعلمته من دراستها فى مدرسة السنية، ثم عملها كمدرسة للغة الانجليزية فى طفلها النبيه الذى تعلم القراءة فى سن الثالثة.

في فصل آخر من الكتاب يتناول المؤلف قصة زواج جاهين عندما كان في زيارة لصديقه هبة عنايت في دار "الهلال"
ورأى لأول مرة "سوسن زكي" الرسامة التي عملت بالصحافة.. وقتها شعر بأنه وجد الملهمة وبمجرد أن تحدث معها تأكد أنه عثر علي نصفه الآخر.. حكي لصديقه عن الفتاة فأثني علي اختياره، وذهب عنايت حاملا رسالة جاهين وكانت عبارة عن جملة واحدة "صلاح جاهين عايز يتجوزك.. إيه رأيك؟".
وافقت سوسن علي الارتباط بعد أن جذبتها الوسامة الكامنة داخل شخصيته – علي حد تعبيرها- وحين جلست معه أخبرها أنها ستأتي في المرتبة الثانية في حياته بعد عمله الذي يضعه دائما رقم واحد.
جاهين مع أسرته
في عام 1955 تزوج صلاح وسوسن وأنجبا "بهاء" و"أمينة"، وتتذكر زوجته أيامها الجميلة مع جاهين والذي شجعها علي دراسة الرسم في معهد ليونارد دافنشي، فتقول "ظل هكذا طوال حياته حتى بعد أن اتخذنا قرار الانفصال، الذي لم يؤثر علي علاقته بالأولاد أو حتى بي، فمازلت أذكر أنه فاجأني في أول عيد ميلاد بعد الطلاق وأحضر لي تورتة وهدية لن أنساها كانت عبارة عن شنطة رسم خشب فيها كل الألوان ولوحات وحامل الرسم".
افترق الزوجان حين التقى جاهين "منى قطان" في صيف 1963 بعد تعيينه في الأهرام لتكون مهمته التعليق علي الأحداث بالكاريكاتير.. في هذا التوقيت رأى في "منى" الحيوية التي أراد أن يضفيها إلى حياته لذلك كان يستمتع معها برحلة الصعود إلى جبل المقطم علي قدميه وأثناء سيرهما كانا يتحدثان عن آرائهما في الفن والفلسفة، وكانت منى ترى أن الفن هروب من الواقع بينما كان يؤكد لها أنه ثورة علي الواقع.
يقرر صلاح ومنى الارتباط وتخطي كل العقبات التي تعوق طريق زواجهما والتي ترويها "منى" قائلة "كانت هناك حواجز اجتماعية كثيرة وأدرنا معارك كثيرة لتجاوزها، معارك في داخلنا وأخرى خارجنا مثل الزواج والأطفال وفارق السن ( 13عاما ) واختلاف الديانة".
رياضي ممتاز!
جمعت الصدفة مبدعنا الراحل بالفنان سيد مكاوي لتنشأ بينهما صداقة قلما تتكرر وكان جاهين يصف علاقتهما بـ "العسل والطحينة" فكانا يذهبان إلى المولد في كل مكان حيث استلهما فكرة "الليلة الكبيرة".
يقول توفيق في كتابه، لا يمكن اختزال صلاح جاهين بقدراته الهائلة ومواهبة المتعددة في كونه مجرد شاعر أو رسام أو كاريكاتير أو مؤلف أغاني، حتى لو نصبته ملكا متوجا على كل هذه الفنون؛ لأنه يحمل رؤية فيلسوف كبير تختلف نظرته وتتعمق باتساع موهبته؛ لذلك عندما رحل كان مدينا بألفي جنيه لأنه امتلك ناصية كل المواهب إلا موهبة جمع المال.
الغريب أن جاهين برغم براعته الشديدة في كل الفنون التي مارسها، إلا إنه لم يفكر يوما أن يمارس الرياضة، وعندما لجأ مؤلف الكتاب لخبير الخطوط فؤاد عطية قال بعد أن شاهد بعض الوثائق بخط يد جاهين، "لو كان اهتم بالرياضة كان هيبقى رياضي ممتاز" لأن ذلك كان سيحقق له توازنا أكبر ويشعره بالسعادة، لكنه اعتمد على الجانب الفكري وترك الاهتمام بجسمه.

السياسة مهلكة
جاهين أحب جمال عبد الناصر قبل أن يلتقيا، بل كانت أشعاره التي كتبها وعمره لا يتعدى السادسة عشرة، دعوة صريحة للثورة، لكن حين جاءت الثورة لم يقترب من صناعها بل وقف ضدها عندما تخلت عن الديمقراطية في أزمة 1954 وظل على موقفه حتى عام 1956 عندما قام عبد الناصر بتأميم قناة السويس، ويومها فقط قرر جاهين أن تكون أشعاره وقودا للجنود في ساحات المعارك.
وعندما أعلن العدوان الثلاثي على مصر، كتب جاهين قصيدته الشهيرة "والله زمان يا سلاحي" لتصبح النشيد الوطني لمصر حتى معاهدة "كامب ديفيد" التي قيل أن من بنودها السرية تغيير هذا النشيد، وكان يقول فيه:والله زمان يا سلاحياشتقت لك في كفاحيانطق وقول أنا صاحييا حرب والله زمان
عندما صدرت قرارات باعتقال رفاق درب جاهين من المثقفين، ذهب لأسرهم وساندهم ماديا ومعنويا، وتسبب له ذلك في حرج شديد حتى إنه تم التنبيه عليه بعدم تكرار تلك الزيارات وإلا سيتم وضع اسمه ضمن القائمة المطلوبة باعتباره من أعداء الثورة! لكنه رفض، وبالفعل تم وضع اسمه في قائمة الاعتقالات أكثر من مرة، ولكن تدخل عبد الناصر وشطب اسمه بنفسه – كما أكدت أخته بهيجة- ليستمر جاهين في مساندته لأسر المعتقلين وسندا لحلم النهضة.

ارجع يا صلاح
مواقف إنسانية كثيرة يرويها توفيق عن صلاح جاهين، فيشير إلى أن الثلاثي (عبد الحليم حافظ وكمال الطويل وجاهين) يلتقون في بداية شهر يونيو من كل عام لتحضير أغنية جديدة، وظل الثلاثي على العهد حتى مرض والد جاهين بالسرطان، فلم يتحمل الخبر واختفى تماما، وحاولت أسرته الوصول إليه دون جدوى لمدة عشرة أيام، فأقسمت أخته بهيجة أن "حليم هو اللي مخبيه" فذهبت إلى حليم الذي أقسم أنه لم يره ووعدها بأن يحضره، وبالفعل أحضره في اليوم التالي بعد أن نشر إعلانا في الأهرام يقول "ارجع يا صلاح أهلك بيدوروا عليك".
يأتي عام 1967 بنكسته ويدخل جاهين في حالة اكتئاب حادة والتي وصفها لاحقا بقوله "لقد عانيت ما عانته مصر كلها من فترة اكتئاب من عام 1967 وحتى نصر 1973؛ فالنكسة عندما حلت بمصر حلت بكل شىء.. نكسة في الحياة، في أعماق البشر، في الشعر، في الغناء، في كل شىء. أنا كمصري تأثرت بهذه النكسة، وكفنان تأثرت أكثر وأكثر؛ لأن قبل النكسة كان هناك شىء نغني له: الثورة، الأمل، والمستقبل.. أشياء كثيرة، ولكن هذا كله توقف".
اعتلى السادات كرسي الحكم وظن أن جاهين سوف يناصره لكنه فوجىء بالعكس حيث كان "صلاح" يعانده بكتابة قصيدة جديدة في الأهرام كل عام في ذكرى وفاة عبد الناصر مما أغضب السادات وجعله يرسل له واحدا من رجال الحكم ليبلغه رسالة تقول "الرئيس بيقولك أنت ما بتكتبش عنه ليه؟" وكان رد جاهين "والله أنا مش ترزي" لتظل العلاقة متوترة بينهما، لكن السادات ظل دائما يخشى تأثير هذا الشاعر الكبير لذلك لم يبطش به.
موعد مع رباعياته
في أحد أيام 1959 كانت مصر على موعد مع أقرب أعمال جاهين إلى مريديه حين كان يسير في شارع القصر العيني في طريقه إلى مجلة "صباح الخير" بعد ان دخل كل رفاقه المعتقل وإذ بأبيات تتردد في ذهنه وهو يمشي:مع إن كل الخلق من أصل طينوكلهم بينزلوا مغمضينبعد الدقايق والشهور والسنينتلاقي ناس أشرار وناس طيبينثم علق على تلك المعاني بصوت عال:عجبي!صعد إلى المجلة وقابل في الطرقة صديقه أحمد بهاء الدين وكان رئيس تحرير المجلة فقال له صلاح: اسمع دي، وتلا الأبيات فإذا ببهاء الدين يقول: أنا عايز أربع سطور زي دول كل أسبوع في المجلة؛ وهكذا ولدت رباعيات جاهين.
وفي رؤية نقدية للرباعيات كتب يحي حقي: "لم يهدد أحد اللغة الفصحى كما هددها صلاح، ضع في كيس واحد كل ما كتب به من أزجال وقصائد وأغان فلن يصعب عليك أن تلقيه في أول كوم زبالة يقابلك في سوق التوفيقية، حتى بيرم التونسي لم يشكل خطرا على الفصحى لأنه اقتصر على المحاكاة والوصف، أما صلاح فقد رفع العامية بعد أن طعمها بالفصحى وثقافة المثقفين –فهي في الحقيقة لغة ثالثة- إلى مقام اللغة التي تستطيع أن تعبر عن الفلسفة شعرا، وهذا خطر تكون عاقرا فنحن في غنى عن هذه البلبلة التي لابد ان تصيب حياتنا الأدبية؛ فالإجادة في هذه اللغة الثالثة لن تكون إلا فلتة من الفلتات، فلو استخدمها كل من هب ودب تحول غذاؤنا كله إلى بضاعة دكان التسالي".
ويقول حقي أن صلاح كتب بعامية أنيقة رشيقة ولكنه طعمها بألفاظ وتراكيب غير قليلة من الفصحى، واللغة العامية مليئة بمطبات كثيرة؛ فهي لغة في صميمها فوضوية لكنه يتغلب على هذه العقبات.. والنغمة العامية لها أيضا جذب شديد إلى الابتذال، ولكن صلاح عرف كيف يتفادى هذا الابتذال بفضل رقة حسه، فتبدو لك اللفتة البارعة كأنها نكتة مبتذلة:بره القزاز كان غيم وأمطار وبرقما يهمنيش –أنا قلت- ولا عندي فرقغيرت رأيي بعد ساعة زمانوكنت في الشارع وفي الجزمة خرق




عجبى!

بعد صدور ديوان "قصاقيص ورق" عام 1965 حدثت النكسة التي جعلت جاهين يترك الشعر لمدة 17 سنة حتى ظن بعض الخبثاء أنه لم يعد يستطيع كتابة الشعر فرد عليهم بديوان "أنغام سبتمبرية" عام 1984 قبل وفاته بعامين فقط ليكون ديوانه الأخير، وفيه نشر رائعته "على اسم مصر" التي تقول كلماتها:على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما يشاءأنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياءباحبها وهي مالكة الأرض شرق وغربوباحبها وهي مرمية جريحة وقت الحربباحبها بعنف وبرقة وعلى استحياءواكرهها والعن أبوها بعشق زي الداء

قالوا ابن آدم روح وبدنه كفن

في ليلة 16 من أبريل 1986 دخل جاهين غيبوبة الموت التي كانت كل الأحداث المحيطة به تدفعه إليها، فتلاميذه الذين صنعهم تطاولوا عليه وقال بعضهم إنه انتهي مع عصر جمال عبد الناصر الذي كان بوقا له؛ وبالتالي لم يعد قادرا على كتابة قصائد جديدة.
والمسئولون عن المسرح القومي سحبوا مسرحيته "إيزيس" في الوقت الذي كانت تحقق فيه أعلى إيرادات في تاريخ القطاع العام ليضعوا بدلا منها مسرحية "مجنون ليلى" التي لم يشاهدها أحد.
وزوجته مني قطان تم وقف بروفات مسرحيتها التي كانت ستقوم ببطولتها بعد يومين فقط من بدايتها على يد المخرج نعمان عاشور؛ مما جعلها تدخل في نوبة اكتئاب جعلته يستدعي لها طبيبا نفسيا ليساعدها على الخروج من تلك الأزمة لكنه دخل هو فيها بمجرد أن اطمئن على زوجته.
كانت هذه المقدمات تشير إلى أنها الأيام الأخيرة لجاهين الذي رحل وهو يحلم أن يبني مسرحا مثل شكسبير يقدم فيه ما يريد دون ضغوط او قيود، لكنه عاش ومات لا يملك من حطام الدنيا سوى أرصدة في القلوب وليست في البنوك.
خرج ابن آدم م العدم قلت: ياهرجع ابن آدم للعدم قلت: ياهتراب بيحيا.. وحي بيصير ترابالأصل هو الموت ولا الحياة
Share on Google Plus

About Unknown

This is a short description in the author block about the author. You edit it by entering text in the "Biographical Info" field in the user admin panel.
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

أضف تعليق