يبدو أن الإعلام الأميركي لم يكتشف إلى الآن خطورة عملية التجسس التي قام بها جوناثان جي بولارد. غير أن المذكّرة التي تشتمل على حيثيات الدعوى التي أقامتها وزارة العدل عليه في 5 يناير 1987 وقدّمتها إلى المحكمة الفدرالية في واشنطن تثبت أنه من أخطر الجواسيس الذين عملوا ضد الولايات المتحدة في هذا القرن. كما أنها تشتمل على أدلة دامغة جديدة تثبت مدى تورط الحكومة الإسرائيلية فيما حاولت التقليل من أهميته ووصفه بأنه مجرّد "عملية قام بها سفيه".
فالضرر الذي ألحقه بولارد بمصالح الأمن الأميركي قد يكون من المستحيل الإحاطة بأبعاده. فما قدّمه للإسرائيليين يشتمل على أكثر من ألف وثيقة سرية بينها وثائق تقع الواحدة منها في مئات الصفحات. ومنها ما كان مصنّفاً بين الوثائق السرية جداً أو ما يُعرف "بالوثائق المصنفة الحساسة" التي تشتمل على "معلومات عن الأنظمة التكنولوجية المتقدّمة لجمع المعلومات وما جُمع بواسطتها".
وتشتمل هذه الوثائق على معلومات مفصّلة عن حكومات الشرق الأوسط وجيوشها، وعن مواضع السفن وأساليب الحرب وأنظمة الأسلحة الأميركية، وعن تحليل الأميركيين لأنظمة الصواريخ السوفييتية. كما تشتمل على معلومات وافرة عن أساليب المخابرات الأميركية البشرية والإلكترونية في جمع الأخبار. وحذّرت وزارة العدل بصورة خاصة من أن الحصول على تلك المعلومات يكشف هوية المخبرين الذين تستخدمهم المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط وربّما في أماكن أخرى.
لمن سلّم بولارد هذه الوثائق؟ في البداية على الأقل وصلت غالبية هذه الوثائق المسروقة إلى الحكومة الإسرائيلية. كما أن بولارد وزوجته قدّما بعض هذه الوثائق لجمهورية الصين الشعبية وأطلعا بعض أصدقائهما عليها.
ومما يلفت النظر أن المعلومات التي سرقها بولارد باستخدام جهاز الكمبيوتر المشترك بين مختلف الوكالات تكاد لكها أن تقع خارج اختصاصه (وهو الإرهاب) وخارج منطقة تجسسه (وهي أميركا اللاتينية). وبعبارة أخرى فإن تلك المعلومات من النوع الذي لا حاجة به لمعرفته. وعلى أي حال فإن نظام حماية المعلومات السرية جداً قد انهار تماماً. وعندما أقام بولارد أول اتصال له بالإسرائيليين أبلغهم أنه يريد أن يستغل بعض الجواسيس العاملين في جهاز المخابرات الأميركية لصالح إسرائيل. ومن المؤكد أنه فعل ذلك.
ولما كان بولارد من أكبر الجواسيس، فإنه كوفئ على دوره بالعناية والحماية والتعويضات التي تتناسب معه. وتتناول مذكرة وزارة العدل التي قُدمت للمحكمة الفدرالية مدى تورط الحكومة الإسرائيلية المباشر وحجم العملية الذي يشمل الأموال والأشخاص الذين شاركوا فيها والمهارة الفنية العالية لشبكة بولارد. وتأتي المذكرة على ذكر المتورطين وهم ثلاثة مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية، وسكرتير بالسفارة الإسرائيلية، بالإضافة إلى إسرائيلي يُعرف باسم "أوزي" ورجل آخر لا يعرف اسمه كان يساعد في نسخ الوثائق في بيت دبلوماسي إسرائيلي في ولاية ماريلاند لم يُذكر اسمه. واستخدمت شقة وربما شقتان بجوار السفارة الإسرائيلية للاجتماعات. وكانت أحداهما مجهزة بآلات استنساخ متطورة جداً. وزُوّد بولارد برقم هاتف بالسفارة الإسرائيلية للاتصال بها في الليل عند الضرورة. فقد كان نجماً من نجوم الجاسوسية.
أما عن النقود فلا تسل. فقد تسلّم مبلغ 50.000 دولار خلال ثمانية عشر شهراً ووعد بأن يقبض 450.000 دولار أخرى خلال السنوات العشر التي كان ينتظر أن تستمر فيها عملية التجسس. وجرى كذلك إيداع 30.000 دولار باسمه في أحد بنوك سويسرا. هذا فضلاً عن الجواهر وغيرها من الهدايا التي قُدمت له ولزوجته. وكان هذا كلّه لتشجيع بولارد على المضي قدماً بالمؤامرة. واشتملت النفقات الأخرى على مرتبات المشاركين الآخرين وعلى تكاليف أجهزة النسخ والاجتماعات في أوروبا وإسرائيل. وعليه فإنها كانت عملية باهظة التكاليف.
واشتملت مذكرة وزارة العدل على أدلة أخرى على تورّط الحكومة الإسرائيلية المباشر في العملية :
- بعد ساعات قليلة من اعتقال بولارد قامت الحكومة الإسرائيلية بتهريب المسؤولين الإسرائيليين اللذين كانا يوجّهان بولارد من الولايات المتحدة وهما الكولونيل أفييم سيلا وجوزف ياغور.
- كان سيلاً (ولا يزال) منخرطاً في القوات الجوية الإسرائيلية. وبعد أن اعتقل بولارد تمّت ترقيته. وهو الآن قائد قاعدة ريمون الجوية في إسرائيل. وخلال عملية التجسس كان رفائيل إيتان، جاسوس الموساد الأكبر والمستشار السابق لرئيسي الوزراء مناحيم بيغن وإسحاق شامير، يعمل بوزارة الدفاع الإسرائيلية. وتلقّى هو أيضاً مكافأة من الحكومة الإسرائيلية التي أسندت إليه منصب المدير التنفيذي الأكبر لشركة الكيماويات الإسرائيلية، وهي أكبر شركة تملكها الحكومة في تلك البلاد.
- كان سيلاً وإيتان يُطمئنان بولارد باستمرار إلى أنه إذا قُبض عليه فإن الحكومة الإسرائيلية ستعالج المسألة عبر القنوات الدبلوماسية. وحدث مرة أنهما أظهرا له جواز سفر عليه صورته واسم مختلف.
- وفي يوليو وأغسطس عام 1985 قضى بولارد وزوجته عدة أسابيع في إسرائيل زار بولارد خلالها إيتان في مستشفى بتل أبيب. وإذا تذكرنا مركز بولارد في المخابرات البحرية الأميركية وماضي إيتان في ميداني السياسة والمخابرات، فإنه يصبح من الصعب أن يصدّق المرء أن المخابرات الإسرائيلية المضادة لم تكن على علم بزيارة بولارد واتصالاته. لكن إسرائيل مع هذا لم تبلّغ الحكومة الأميركية شيئاً عن زيارته.
- في كل أسبوعين وعلى امتداد ثمانية عشر شهراً كان سيلا وياغور يتعاقبان على نقل طلبات مفصّلة بالمعلومات التي يراد من بولارد سرقتها من الكمبيوتر. ولم تكن هذه من قبيل المعلومات العامة. فقد كان سيلا وإيتان وعلى الأخص ياغور يطلبان منه معلومات عن أنظمة أسلحة سرية معينة. وكانا أحياناً يطلبان وثائق معيّنة بعناوينها وأرقامها وهكذا. ومن الواضح أن مثل هذه ا لطلبات الفنية الدقيقة لا تصدر إلاّ عن جهاز استخبارات كامل. ونظراً لارتباطات إيتان الماضية، فإنه يرجّح أن يكون هذا الجهاز هو الموساد.
- لم تكتف الحكومة الإسرائيلية بعدم التعاون مع مكتب التحقيق الفدرالي وجهاز التحقيق البحري (NIS ) خلال التحقيق في قضية بولارد، بل إنها سعت جاهدة إلى عرقلته. فبالإضافة إلى قيام الإسرائيليين بتهريب سيلا وياغور بسرعة من الولايات المتحدة، فإنهم رفضوا إعادة 80% من الوثائق التي سرقها بولارد. وعلاوة على هذا فإن الوثائق التي أعادوها وعددها 163 وثيقة كانت كلها نسخاً ولا تحمل بصمات بولارد. ولم تُعد إسرائيل وثيقة أصلية واحدة، وبذلك حرمت مكتب التحقيق الفدرالي وجهاز التحقيق البحري من أدلة مادية في غاية الأهمية.
وختمت وزارة العدل مذكّرتها بالقول بأن العلاقات الرسمية الأميركية مع البلاد التي تتلقى الوثائق المسروقة لا تأثير لها في الضرر الذي لحق بمصالح الأمن القومي، وينبغي أن لا يكون لها أي تأثير على صرامة العقاب الذي يجب أن ينزل بالجاسوس في حالة ثبوت التهمة عليه. كما أنها تحدثت عن أسلوب "العَلَم المزيّف" الذي يُتبع في الجاسوسية. وخلاصته أن الجاسوس يخدع المُخبر فيوهمه أنه يعمل لصالح دولة صديقة أو حليفة.
والمثل الذي ضربته وزارة العدل على أسلوب "العَلَم المزيّف" في التجسس هو ما حدث لجيري وٍتوورث الذي تمكنت المخابرات السوفييتية (كي.جي.بي) من إيهامه بأنه يعمل لصالح إسرائيل لا الاتحاد السوفييتي. وتضيف مذكرتها بأنه عندما يصدر الحكم على بولارد يجب أن يُشار إلى أن إي انتهاك لقوانين الأمين ينبغي أن يعاقب بشدة وذلك لكي لا يقع البعض ضحية الإغراء فيتعامون عن القوانين عندما يقال لهم بأنهم يعملون لمصلحة حليف.
ومما يلفت النظر أن وزارة العدل لم تُشر مرة واحدة في معالجتها لأسلوب "العَلَم المزيّف" التي ملأت عدة صفحات من مذكّراتها إلى أن هذا هو ما جرى لبولارد. فبدا وكأنها تقول بأن إيتان وصحبه كانوا، كما قالوا، عملاء للحكومة الإسرائيلية.
وبالإضافة إلى هذا طلب محامو الاتهام إنزال عقوبة صارمة ببولارد لأنه إذا أخلي سبيله فإنه قد يفضح معلومات سرية أخرى. فإلى أين سيذهب بولارد؟ قالت وزارة العدل بأن جريدة "الجيروزاليم بوست" نشرت مقالاً في 21 نوفمبر 1985 يشتمل على تصريح لبولارد يعبّر فيه عن رغبته في الهجرة إلى إسرائيل. فإلى من كان سيُفشي بما بقي لديه من معلومات؟ ثم إن تشديد المذكرة على ما عبّر عنه بولارد مراراً من حب وإخلاص لإسرائيل لا يدع مجالاً للشك في أنه لو هاجر إليها لقامت الحكومة الإسرائيلية باستغلال ذاكرته وخبراته.
وما لم تقله وزارة العدل في مذكرتها بالرغم من أنه واضح كل الوضوح هو أن الحكومة الإسرائيلية هي التي كان باستطاعتها أن تستفيد من أكثر المعلومات التي حصلت عليها بواسطة بولارد لأنها تتعلق بحكومات الشرق الأوسط وأنظمة الأسلحة الأميركية التي تستخدمها إسرائيل. وأرفقت وزارة العدل مذكّراتها بمقال من "الجيروزاليم بوست" عنوانه: "بولارد المذهول : لماذا تخلّت إسرائيل عني؟" وفي المقال ذاته يشبّه بولارد حاله بحال طيّار إسرائيلي سقط وراء خطوط العدو وتركته إسرائيل لمصيره التعس. ولكن "الجيروزاليم بوست" كانت مخطئة. فبولارد لم يُصب بالذهول. فقد كان ولا يزال وراء خطوط العدو.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق