Facebook

النظم العالمية

لنظم العالمية قديمها وحديثها ( 1 )

الليبرالية بين النقد والتجديد ( 2 )

وقع أحد القراصنة في أسر الاسكندر. وحين سأله الاسكندر : كيف تجرؤ على ممارسة المضايقات في البحر؟ أجاب القرصان : وأنت كيف تجرؤ على ممارسة المضايقات في العالم بأسره؟ ألأنني أفعلها بسفينة صغيرة يقال إنني لص (أو إرهابي بالمفهوم الحديث) وحين تفعلها بأسطول كبير يقال بأنك امبراطور!.

بهذه الحكاية ونقلاً عن القديس اوغسطين قدم نعوم تشومسكي لكتابه "قراصنة وأباطرة" وهو الكتاب الذي نقد فيه تشومسكي المفهوم الأميركي للإرهاب والذي أدان فيه التغاضي عن الإرهاب الإسرائيلي.

ويعود المؤلف فيخصص كتاباً بعنوان "مثلث الشؤم" لمناقشة وتفنيد حجج الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وفيه يؤكد عدّة طروحات مستقبليّة تحولت اليوم إلى واقع. من هذه الطروحات على سبيل المثال لا الحصر نذكر :

1- الخوف الإسرائيلي من السلام إذ يذكر المؤلف بعدّة مبادرات عربية للسلام في الأعوام 70و71و74و76و81 ثم يركز على مقررات القمة العربية في فاس العام 1982. في المقابل يذكر تشومسكي بالذعر الإسرائيلي من السلام ومحاولة بل والعمد إلى قلب الطاولة كلما لاحت فرصة سلام. فقد ردت إسرائيل على مبادرة الملك فهد باختراق طائراتها للأجواء السعودية ثم عادت فاجتاحت لبنان وصولاً إلى بيروت في العام 1982 وذلك في محاولات مستميتة للخلاص من أية فرصة سلام تلوح في الأفق (وهذا ما تزال إسرائيل تمارسه لغاية اليوم).

2- رغبة إسرائيل في طرد ما أمكن من سكان الضفة الغربية وتحويل إسرائيل على غرار جنوب إفريقيا إلى نظام الأقاليم المتعدّدة (البانتوستان) والالتزام بالحفاظ على هذا التمزّق.

هذه اللمحة الموجزة كانت ضرورية لتقديم الكتاب الجديد لهذا المؤلف المعروف كواحد من أشد النقاد الليبرالية وأكثرهم حماسة لتصويبها وتجديدها.

ومع أن تشومسكي بات أشهر من أن يعرف فلا بأس من التذكير بأنه يهودي أميركي من أصل بولوني. وهذا ما جنّبه تهمة معاداة السامية وإبدالها بتهمة "اليهودي الذي يكره نفسه". والواقع أن كتابات هذا العالم الألسني تضاف إلى رصيد الليبرالية الأميركية. بل لعلها إحدى أهم الإضافات القليلة لهذا الرصيد في العقود الأخيرة.

يتصدى تشومسكي بالنقد للأسلوب الأميركي في التطبيق السياسي الخارجي لليبرالية. لذلك كان من الطبيعي أن يرتبط نقده للسياسة الخارجية الأميركية بالتطبيقات العربية لهذه السياسة.

وهكذا نجح تشومسكي في التصدي لمحاولات إلصاق تهمة "الإرهاب" بالعرب مبيّناً الممارسات الإرهابية الأخرى والإسرائيلية تحديداً. مفسّراً في المقابل دوافع ما يسمى بالإرهاب العربي. ثم تصدى تشومسكي للاجتياح الإسرائيلي للبنان موضحاً أهدافه متنبئاً بغاياته التي يمكن تلخيصها برغبة إسرائيل في خلق فوضى ديموغرافية عارمة في المنطقة بخلق نظام الأقاليم المتعدّدة داخل إسرائيل ومحاولة إقامته خارجها مع إجهاض أية فرصة للسلام.

وها هو تشومسكي يتناول في كتابه الجديد المسألة العراقية. وتناوله هذا يثير إشكاليات متفجّرة. إذ ينتقد الاندفاع العربي نحو السلام في مقابل انعدام القابلية الإسرائيلية للسلام. ويركز على التنازلات الفلسطينية المبالغة في هذا المجال. وباختصار فإن كتب تشومسكي السابقة كانت تلقي مزيجاً من الإعجاب والامتنان من قبل العرب في حين أن كتابه الأخير قد لا يعجب بعض العرب.

ولعله من الضروري، قبل عرض موجز بالغ الاختصار عن الكتاب الجديد، أن نعرض للنقاط التالية :

1- النقاد العرب لليبرالية :

يأتي إدوارد سعيد في مقدمة هؤلاء النقاد والذي يوصف بالماركسي المستتر أو (المختبئ داخل الخزانة) بحسب التعبير الأميركي. في حين يعتبر تشومسكي ماركسياً معلناً مجابهاً.

ولكن هل تطرح المقارنة بين الاثنين؟. إنهما يلتقيان في نقدهما لليبرالية لكنهما يختلفان في أمور يصعب حصرها. إذ أن ما يفعله تشومسكي يدخل في نطاق المفهوم الماركسي للخيانة الطبقية (والعنصرية). في حين أن وضعية إدوارد سعيد لا تتطلب منه مثل هذه الخيانة. كما أن سعيد يرى إمكانية التعديل والتجديد. مثال ذلك أن العرب، برأي إدوارد سعيد، لم يقوموا بمجرّد جهد تعريف الجمهور الأميركي بوجهة نظرهم. وبهذا بقي هذا الجمهور تحت تأثير سيطرة الصهيونية على الإعلام وخصوصاً على وسائل الترفيه والسينما000 الخ. هذا التعريف الذي يمكن لتشومسكي أن يقوم به بحرية مطلقة لأنه ليس عربيّاً بل لأنه يهودي. فلو قام إدوارد سعيد أو غيره من المفكرين العرب بنشر إحدى كتب تشومسكي باسمه (على سبيل التجربة وبالاتفاق مع المؤلف) فإنه سيواجه بقائمة طويلة من التهم. لعل أسهلها "الإرهاب" تليه المتابعة والملاحقة لأسباب مختلفة للحفاظ على مظهر اللياقة الليبرالية.

هذا الاختلاف يفسّر لنا كيف تفعل قصة الاسكندر والقرصان فعلها عندما ترد على لسان تشومسكي فتدفع القارئ للتأمل وإعادة النظر. في حين تكاد تمر بدون ملاحظة إذا هي وردت على لسان مفكّر عربي. وهذا الاختلاف عينه يفسّر لنا الموقف المسالم للنقاد العرب لليبرالية والذي يصل أحياناً إلى حدود المجاملة والتزلّف. حتى أن بعضهم يتجنّب النشر. ولقد ملك إدوارد سعيد الكثير من الجرأة في نقده للاستشراق وفي نقده لليبرالية بصورة إجمالية. وفي رأينا الشخصي أن آراء سعيد وكتبه قد استطاعت أن تلعب دور الوساطة الممهدة للحوار بين عالمين. أولهما يجهل كل شيء عن الثاني ويعوّض جهله بإيحاءات معادية ومغرضة هي إيحاءات صهيونية. أما العالم الثاني (العربي) فهو يعجز عن التفريق بين السلطة وبين الرأي العام الأميركي. فالسلطة الأميركية تسخّر الليبرالية لخدمة مصالحها ولمحاولة إعادة تنظيم العالم بناءً على هذه المصالح. أما الرأي العام الأميركي فهو مستفيد من الوفرة الاقتصادية ولكنه مستعد لسلوك مسالك أخرى لبلوغها. وأكبر دليل على ذلك هو انفتاح هذا الجمهور للإنصات للحقائق. لدرجة دفعت باللوبي اليهودي الإعلامي لاستغلال هذا الانفتاح استغلالاً سيّئاً. ومن أمثلة هذا الاستغلال محاولة دعم الهروب الإسرائيلي من السلام بتفجير فضائح نسائيّة للرئيس الأميركي.

2 النظام العالمي الجديد :

لا نريد أن نستبق ما ورد في كتاب تشومسكي من نكرانه لوجود مثل هذا النظام. لكننا نود الإشارة إلى أن الكثيرين قد سبقوا المؤلف إلى هذا النكران. ذلك أن تسمية "النظام العالمي الجديد" هي أشبه بتسمية " الإمبراطورية الرومانية المقدّسة". التي لم تكن لا إمبراطورية ولا رومانية ولا مقدّسة. وهذا النكران يعود في حقيقته إلى زمن الحرب الباردة حيث كان أكاديميّو الوكالة ( C I A ) يرون استحالة انتصار أحد قطبي الحرب الباردة لأن الاستقراء التاريخي يبيّن ضرورة وجود القطب الآخر. فلما انهار الاتحاد السوفياتي وجدت الولايات المتحدة نفسها في مواجهة مأزق البحث عن قطب بديل. ووصلت في هذا البحث إلى حدود التفتيش عن عدو جديد. ولقد رشح المستقبليّون الأميركيون لمنصب العداء كلاً من الإسلام والصين وأوروبا (المتحدة) وغيرها. وكان الرئيس الأميركي نيكسون قد رشّح أوستراليا لوراثة الولايات المتحدة ودورها في مذكّراته، ليتحوّل هذا الترشيح في عهد بوش إلى تهديد لأوستراليا بالحرمان من الميراث. ولعل أفصح تعبير عن المأزق الأميركي هو ما قاله جيورجي آباتوف (مستشار غورباتشوف) همساً في أذن أحد المسؤولين الأميركيين000 "إننا نصيبكم بخطب جلل000 فنحن نجرّدكم من ا لعدو000".

3- الأنظمة العالمية قديمها وحديثها :

هذا هو العنوان الذي اختاره نعوم تشومسكي لكتابه الجديد المشار له أعلاه. وهو صادر عن بلوتوبرس (دار نشر بريطانيا يسارية) ويقع في 345 صفحة. الفصل الأول من الكتاب يحمل عنوان: "المراوحة في المكان" ويكرر فيه معارضته لمبدأ النظر غير المتساوي (أو سياسة الكيل بمكيالين) فيذكر بإصرار رئيس الوزراء البريطاني العام 1932 لويد جورج على قصف العبيد السود. وذلك من خلال إصراره على استثناء بريطانيا، في إطار معاهدة نزع السلاح، وإعطائها الحق في قصف المدنيين الذين يثورون عليها. وذلك استناداً إلى نمط تفكير أساسي أطلقه تشرشل (وزير الحربية البريطانية العام 1919) عندما أراد السماح لقيادة السلاح الجوّي الملكي باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المتصلبين العرب وذلك على سبيل التجربة! حيث قال تشرشل : لا أفهم أسباب معارضة استخدام الغازات ضد قبائل غير متحضّرة!.

ويستغلّ تشومسكي ما تثيره هذه الوقائع من خواطر (أهمها أن عالم اليوم مبني على أساس هذا النمط الفكري) لينتقل بصورة مفاجئة إلى حرب الخليج الثانية حيث يرى أن حماية أميركا لحلفائها تتم وفق أساليب الحماية لدى الكوزانوسترا (المافيا) بما تحمله هذه الأساليب من أتاوات وتوريط.

أما الفصل الثاني فيخصّصه المؤلف للاستقراء التاريخي. فهو يتحدّث عن النظام الاقتصادي السياسي ودروس التاريخ حول تغيّرات هذا النظام ثم يحلّل محيط النظام العالمي الراهن ليخلص إلى نكران وجود "النظام العالمي الجديد" ويعتبره مجرّد كوميديا من صنع الرئيس بوش. ونأتي إلى الفصل الثالث من الكتاب حيث يعرض تشومسكي للجائزة الكبرى للتاريخ انطلاقاً من مبدأ مونرو وتركيبة العدو الداخلي وهيكلية السلطة واللاعبين الإقليميين وغزو التاريخ حتى سقوط جدار برلين.

الفصل الرابع يكرّسه تشومسكي لديبلوماسيّة الشرق الأوسط التي لا يمكن فصلها عن الأفكار والأحداث الواردة في الفصول السابقة. فيرى أن علائم السلام العادل تغيب عن هذه الديبلوماسية وتهيمن عليها علائم الرفض والهروب من السلام وترافقه مع مبادئ سلام المنتصرين. وبناءً على هذه الرؤية فإن المؤلف يرى في الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي تنازلاً وينقل عن ميرون بنفسيتي قوله : "إن عرفات طأطأ رأسه مرة أخرى مقابل خصمه القوي". فاتفاقية أوسلو تعني أن تبقى نصف الضفّة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية المطلقة بينما يترك نصفها الآخر في حالة مبهمة تحت رحمة المستوطنات وخلق وقائع ديموغرافية جديدة عبر هذه المستوطنات.

ويتابع تشومسكي تحت عنوان فرعي هو "جدار برلين ينهار مرة أخرى" يعرض المؤلف لموضوع الانتفاضة التي أشعرت قيادة المنظّمة بأنها تفقد دعمها الشعبي في الأرض المحتلة لدرجة أنها كادت تخسر ثقة العلمانيين الذين بدأوا بانتقاد الفساد المستشري داخل المنظمة. وذلك مقابل انتشار واتّساع نفوذ المعارضة الإسلامية لها. وهنا يكرّر المؤلف مقولة منتشرة بين العلمانيين قوامها أن إسرائيل قامت بدعم هذه المعارضة الإسلامية. ولعله من الواقعي القول بأن إسرائيل أرادت أن تستفيد من تنامي الحركة الإسلامية الفلسطينية وهو تنام متوازن مع تنامي الإسلام السياسي في المنطقة.

بعد ذلك ينتقل المؤلف ليعرض بالأرقام الاختراقات الإسرائيلية لاتفاقات السلام مع الفلسطينيين فيذكر أنه وبعد توقيع اتفاقية أيلول 1993 ولغاية كانون الأول من العام نفسه قتل الإسرائيليون 30 فلسطينياً في غزة وجرحوا 1100 منهم بينهم 500 طفل. ولعل التعديل الناجم عن الاتفاقية هو زيادة لجوء الوحدات الأمنية الإسرائيلية للتنكر باللباس المدني وتوزعها في فرق اغتيالات (وفق الأسلوب المتبع في أميركا اللاتينية). ولقد توصّل الجيش الإسرائيلي للتدخّل في الشؤون الفلسطينية لدرجة اعتقاله لمعارضي السلام أو عرفات. الأمر الذي يزيد هوّة الخلاف داخل البيت الفلسطيني. عند هذه النقطة يبدو تشومسكي وكأنه يتنبّأ بسلوك إسرائيلي للهروب من السلام عن طريق تأزيم العلاقات بين الفلسطينيين أنفسهم.

من جهتها فقد ساهمت الولايات المتحدة في تمويل الفوضى الديموغرافية التي تسعى إسرائيل للاستناد إليها في خلق واقع جديد (جعلها تجاهر اليوم بعدم قدرتها على الانسحاب من أكثر من 9 % من أراضي الضفة). إذ يذكر المؤلف أن إدارة كلينتون قدمت، بعد اتفاقية أيلول، لإسرائيل مبلغ 430 مليون دولار لبناء مستوطنات خارج القدس (طبعاً لم تلتزم إسرائيل بوجهة صرف هذا المبلغ. بل هي استعملته في بناء مستوطنات داخل القدس وخصّصت 17 مليوناً من هذا المبلغ لبناء مستعمرات في الجولان.

بعد هذه الأرقام يعود المؤلف ليذكّرنا بقول الصحفي اليهودي في "نيويورك تايمز" المدعو توماس فريدمان : "إن رسالة عرفات لرابين ليست فقط اعترافاً بإسرائيل بل هي رسالة استسلام". وهنا يطرح السؤال عن رأي العرب بهذا التصريح.

ويخلص الكتاب ومؤلفه إلى تأكيد ما يلي : 1 _ إن إسرائيل ليست جادة في دخول عملية السلام و2 _ أنها غير مستعدة للاعتراف بحقوق الفلسطينيين و3 _ لقد أفرط الفلسطينيون في تقديم التنازلات التي يصفها المؤلف بالمذهلة. وانطلاقاً من هذه المعطيات يعتبر تشومسكي أن موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو قمة الصلف والظلم.

إن الظروف المحيطة بتشومسكي تتيح له استغلال هوامش الليبرالية ونقدها بصوت عال والدعوة إلى إصلاحها بدون تردّد. وإذا كان كتابنا العرب لا يتمتعون بمثل هذه الظروف وإذا كنا نقدّر خياراتهم المسالمة في التطرّق لهذه المواضيع فإننا نرى أن ترجمة هذا الكتاب إلى العربية من شأنها أن توفر عليهم الكثير من الحرج وأن تساعدهم على إيصال الصور الحقيقية إلى جمهورهم. بعد أن تولى تشومسكي عرض هذه الوقائع على قراء الانجليزية.



1 منشورة في جريدة الكفاح العربي في 18/6/1998.

2 نعوم تشومسكي : الأنظمة العالمية قديمها وحديثها منشورات بلوتوبرس بريطانيا .

Share on Google Plus

About Unknown

This is a short description in the author block about the author. You edit it by entering text in the "Biographical Info" field in the user admin panel.
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

أضف تعليق