Facebook

نصيب أميركا في الهزيمة الإسرائيلية .. بقلم : سمير كرم


تملك الذاكرة الجماعية ـ ذاكرة الشعوب ـ قدرة استيعابية هائلة، من حيث كم وحجم الذكريات التي تبقى حية بداخلها وتستعاد في أقل من ثانية، او من حيث طول الحقبة الزمنية التي انقضت على وقوع الأحداث التي تبقى ذكرياتها حية بداخلها.
هذا فيما يتعلق بالنضالات والتضحيات التي تخوضها الشعوب من أجل نيل حقوقها او تحقيق أهدافها الوطنية والقومية.
على العكس من ذلك لا تكاد الذاكرة الجماعية للشعوب تعنى بالاحتفاظ بذكريات الأخذ والرد في الجهود الدبلوماسية اذا كانت مخلصة او غير مخلصة، مجدية او غير مجدية... هذه لا بد من الرجوع فيها الى المحفوظات الرسمية اذا كانت ورقية او إلكترونية.
وبطبيعة الحال فإن انقضاء عشر سنوات على تحقيق انتصار المقاومة اللبنانية على إسرائيل وإجبار جيش الاحتلال الاسرائيلي على الانسحاب في حالة من الارتباك والذعر ليس استثناءً من هذه القاعدة. إن مشاهد الانتصار الذي حققته المقاومة وأدى الى التحول التاريخي الكامل للمشهد الوطني والقومي على السواء لا تزال حية في الذاكرة الجماعية للأمة... في حين تعتمد كل ذكريات النشاطات السياسية والدبلوماسية التي سبقت ذلك او أحاطت به او لحقته على السجلات المحفوظة. وبعض هذه السجلات لا يزال في طي الكتمان. فقواعد العمل بالنسبة لوثائق العلاقات الخارجية للولايات المتحدة تبقي على سرية هذه الوثائق لمدة لا تقل ـ انما قد تزيد ـ عن ثلاثين عاماً.
لهذا فإن ما سبق انتصار المقاومة العظيم ـ الأول من نوعه ـ على الاحتلال الإسرائيلي من اتصالات دبلوماسية اميركية حركتها بوادر الهزيمة الإسرائيلية في الجنوب اللبناني ستبقى طي الكتمان تحت قاعدة السرية لفترة لا تنتهي قبل عام 2030.
لكن ثمة استثناء من هذا. وهو ان بعض تلك الاتصالات تسرب الى الصحافة في حينه ونشر، إنما بصورة مقتضبة بقدر ما سمحت التصريحات غير المنسوبة.
عادي للغاية ان نكون قد عرفنا منذ وقت طويل أن الهزائم التي منيت بها إسرائيل على أيدي المقاومة اللبنانية كانت موضوعاً لمفاوضات شاركت فيها فعاليات مدنية وعسكرية اميركية، وان بعض هذه المفاوضات كان بطلب من الجانب الاسرائيلي وبهدف إقناع الجانب الاميركي بحاجة القوات الاسرائيلية الى الدعم بالسلاح والمال، وبعضها الآخر كان بطلب من الجانب الاميركي لإقناع إسرائيل بأنها غير مؤهلة لخوض نوع المعارك التي تفرضها عليها المقاومة في الجنوب اللبناني. بل إن بعض ما كانت الولايات المتحدة تحاول إقناع إسرائيل به ان من المستحيل تنشيط عملية السلام على الجانب مع سوريا بينما حرب المقاومة مستمرة في الجنوب.
لكن ما يدعو للدهشة حقاً ـ إذا عدنا بذاكرة الأوراق الى الوراء ـ ان نعرف ان الولايات المتحدة تنبأت بصورة صحيحة بما حدث لإسرائيل في الجنوب اللبناني قبل حدوثه بما لا يقل عن خمس سنوات.
كانت الولايات المتحدة ترصد بقدراتها الكبيرة على الرصد، محاولات إسرائيل للتغلب على استراتيجية المقاومة وتكتيكاتها، ودلتها قراءتها على أن إسرائيل تخوض حرباً خاسرة بينما المقاومة تلحق بها خسائر يومية وتقضم منها مواقع من الارض المحتلة يوماً بعد يوم.
ولعل من الضروري ان نتذكر أن تلك كانت سنوات بيل كلينتون في الرئاسة وسنوات وارن كريستوفر في وزارة الخارجية الاميركية. لكن لا بد ان نلاحظ التشابه الكبير بين سياسات كلينتون آنذاك وسياسات باراك اوباما في الوقت الحاضر. الإثنان يعتمدان سياسة التعامل بوجهين مع عملية السلام. كانت كامب ديفيد الثانية قد بدأت عندما وقع انتصار المقاومة اللبنانية كالصاعقة على الجانب الإسرائيلي. اما على الجانب الاميركي فلم يكن مفاجئاً الى هذا الحد.
كان وارن كريستوفر يريد في أواخر عام 1995 دفع اسرائيل الى الدخول في مفاوضات للسلام مع سوريا، وكان لا بد من وقف حرب الجنوب اللبناني، وقد اعتقد كريستوفر وقتها ان وقف تلك الحرب هو امر بيد إسرائيل. وفي احد اجتماعاته في واشنطن مع اسحق رابين رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك كانت نصيحة الجانب الاميركي للجانب الاسرائيلي ان «انسحبوا من هذا الجحيم المسمى جنوب لبنان». وعندما تلقى كريستوفر الرد من الجانب الاسرائيلي في صيغة سؤال «وهل يملك أحد أن ينسحب من الجحيم»؟ رد الوزير الاميركي «انتم تستطيعون ذلك».
وقتها قيل إن إدارة الرئيس كلينتون اختارت وقتاً اعتبرته أفضل وقت ممكن لحفز حكومة رابين على مناقشة اقتراح سحب وجودها من الشريط الحدودي بمبادرة ذاتية.. أي بمبادرة تخفي أن وراء هذا الانسحاب آلام الهزائم اليومية أمام المقاومة اللبنانية. وكانت الإدارة الأميركية تعلم ان هناك من يؤيدها داخل إسرائيل، بل داخل حكومة رابين، في هذا المسعى. بل كانت الادارة الاميركية قد لجأت الى فعاليات اللوبي الإسرائيلي في واشنطن لتستخدم مساعيها الحميدة لدى حكومة رابين لإقناعها بالانسحاب من الجحيم. فإدارة كلينتون كانت تخشى ان يلقى عليها جزء ـ على الأقل ـ من اللوم في حالة وقوع هزيمة كاملة بإسرائيل في الجنوب اللبناني.
الغريب في الأمر ان حكومة رابين لم ترفض النصيحة الاميركية رفضاً تاماً .. ولكنها اخفت نيتها مواصلة العمل العسكري، وصرحت للجانب الأميركي بأنها عندما اقامت «المنطقة الأمنية» في الجنوب اللبناني كان الفلسطينيون هم الخطر المقصود، والآن أصبح الوضع مختلفاً.(...) لهذا بدا للمسؤولين الأميركيين ان الشك في قيمة الحزام الأمني لإسرائيل قد تسرب بالفعل الى عقل رابين وأركان حكومته، الأمر الذي يشكل عاملاً مشجعاً على طرق الباب عليهم للتنبيه الى فوائد التخلص من هذا العبء الأمني، بعد الخسائر التي منيت بها قوات الجيش الاسرائيلي في منطقة أنشأتها اسرائيل لتكون حزاماً امنياً يحمي قواتها وراء الحدود الدولية.
في الوقت نفسه قال اوري لوبراني، الذي كان يشغل منصب منسق نشاطات الحكومة الاسرائيلية بشأن لبنان، وكان يعد اكبر خبراء إسرائيل بالشؤون اللبنانية، إن خبراته ومشاعره تدفعه للاعتقاد بأن خطة للانسحاب من الجنوب اللبناني هي خطة لا تملك فرصة للنجاح على الإطلاق.
مالت أميركا الى رؤية الجانب الذي تفضله من افكار الحكومة الإسرائيلية واعتقدت ان اسرائيل أميل للاقتناع بالانسحاب من الجحيم. وكانت الادارة الاميركية مدركة في الوقت نفسه ان اي شرط يمكن ان تحاول إسرائيل فرضه على مثل هذه المبادرة سيقابل بالرفض من جانب لبنان وسوريا، بالتأكيد وفوراً.
ومالت اميركا في الوقت نفسه، الى الربط بين ما كانت تسميه جهود «المرحلة الصامتة» لمحادثات المسار السوري، بتصريح لرابين، اعلن فيه وقتها ان الجيش الاسرائيلي لن ينفذ عملية كبيرة في لبنان رداً على عمليات المقاومة التي اثبتت فاعليتها في منطقة الحزام الأمني بشكل خاص.
وكانت الإدارة الأميركية آنذاك ترى انه لا يكاد يوجد معارضون في المؤسسة العسكرية الاسرائيلية لفكرة الخروج من جحيم الحزام الامني. لكن الادارة الاميركية وضعت في اعتبارها ان تصريح رابين بأن الجيش الاسرائيلي لن يقوم بعملية كبيرة في جنوب لبنان ربما يكون مجرد تمويه على عملية مقررة فعلاً للتغطية على انسحاب فعلي وتصوير هذا الانسحاب بأنه انتصار إسرائيلي، او على الأقل منع ظهوره كهزيمة.
فإذا ما غادرنا منطقة منتصف التسعينيات الزمنية الى منطقة أيار 2000 نستطيع في ضوء الذاكرتين معاً ـ الجماعية الشعبية والورقية المسجلة ـ ان نستنتج السبب في الارتباك والفزع الذي صاحب الانسحاب الاسرائيلي.
فعندما اصبح الانسحاب حتمية عسكرية بعد مضي خمس سنوات على النصيحة الأميركية غير المنفذة، اصبح هدف اسرائيل ان تظهر لواشنطن وكأنها تنفذ النصيحة وتنسحب من الجحيم، ولم يكن الواقع على الارض على اي درجة من المطاوعة لرغبة إسرائيل ولا لأمنية اميركا... وهكذا كان الانسحاب محملاً بكل أعباء الهزيمة للطرفين الإسرائيلي والأميركي. خاصة أن الطرف الاميركي لم يملك في اي وقت النظر في عيون القادة الإسرائيليين ليقول لهم: ألم أقل لكم كان الانسحاب قبل خمس سنوات افضل؟
والسؤال الآن، هل تراجع أميركا اوباما اوراق اميركا كلينتون حتى لا تسيء تقدير المقاومة؟ أم أنها ستفضل ان تترك ذكريات هزيمة اسرائيل لا توقظ أياً منهما، حتى لا تعود حسابات الانتصار والهزيمة حيث يظهر ان نصيب اميركا من هذه الهزيمة يقع على عاتق إسرائيل اكثر مما يقع على عاتق المقاومة.
وهكذا ستكون الحال دائماً.. طالما تنتهج اميركا السياسة المزدوجة ذاتها. تعرف موطن الصواب ولا تبقى فيه.

السفير

Share on Google Plus

About Unknown

This is a short description in the author block about the author. You edit it by entering text in the "Biographical Info" field in the user admin panel.
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 التعليقات:

إرسال تعليق

أضف تعليق