Facebook

أربعون عاماً من التجسس الصهيوني على الحليف الأمريكي




بدأت عمليات التجسس الصهيوني على الحليف الأمريكي منذ أن أعلن عن إنشاء الكيان الصهيوني.. وظلت جميع تلك العمليات – باستثناء عملية واحدة – بعيدة عن الأضواء.. إلا أنه تم مؤخراً السماح بالاطلاع على وثائق عمليات التجسس بناءً على قانون حرية المعلومات الأمريكي.

في الأربعينات: كان أول ملحق عسكري أرسل إلى واشنطن في يونيو 1948 هو "إفرايم بن- أرتزي"، وهو الذي قام بتشكيل مجلس يضم أربعة أشخاص للتجسس على الولايات المتحدة. أما الأربعة فهم: "بن – أرتزي" نفسه – وعضو في الوفد الصهيوني إلى هيئة الأمم بنيويورك – وعميل مخابرات محترف كان يتنقّل بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة – ومحام أميركي بنيويورك.. وكان بين المشاريع الأولى التي قام بها المجلس إنشاء مركز في نيويورك لتدريب العملاء المجنّدين على أساليب التجسس، كالمراقبة الإلكترونية في الشوارع، استخدام الحبر السري، واستخدام الشيفرة في المراسلات، ووضع آلات التنصت في الفنادق التي تنزل فيها الوفود العربية إلى هيئة الأمم والسيارات التي يتنقّلون فيها. لكنهم منذ البداية أيضاً استهدفوا التجسس على مصالح أميركية. وربما كان ذلك يشمل الحصول على نموذج أوّلي لرادار أميركي صغير متحرك للإنذار المبكر وشحنه إلى تشيكوسلوفاكيا مقابل أسلحة تشيكوسلوفاكية للهاجاناه "العصابات الصهيونية" في فلسطين.

في الخمسينات: في عام 1956 اتصل مسؤول صهيوني كبير يُدعى "أيزنشتاد" بمسؤول في السفارة الأميركية بتل أبيب يُدعى "ايرل آي. جنسن" وعرض عليه مبلغاً من المال مقابل الحصول له على معلومات سرية ووثائق. فتظاهر "جنسن" بالقبول وقام تحت إشراف مكتب التحقيقات الفيدرالي بتسليم مواد مختارة لعميلين صهيونيين وهما: "أبرامسكي" و"نيفوث" (والاسمان مأخوذان من وثيقة سمحت وزارة الخارجية بالاطلاع عليها ولم يرد فيها الاسم الأول لكل منهما).

وعندما نُقل "جنسن" إلى واشنطن تبعه العميلان الصهيونيان لمواصلة عملهما. ولمّا لم يكن الصهاينة إذ ذاك يتمتّعون بالحصانة الدبلوماسية فقد اتّفقت وزارة الخارجية ووزارة العدل الأمريكيتان كتابة على تقديمهما للمحاكمة بموجب قانون وكالة تسجيل الأجانب والقوانين المتعلّقة بأعمال التجسس. لكن لأسباب لم يستطع الباحثون إلى الآن الوقوف عليها لم يُعتقلا، ولم يقدّما إلى المحاكمة.

في الستينات: في أواسط الستينات قام مكتب التحقيقات الفيدرالي بالتوسع في التحقيق الذي كان يقوم به إذ ذاك مع لجنة الطاقة الذرية حول احتمال قيام مؤسسة المواد والطاقة الذرية ( NUMEC) في بلدة "أبولو" بولاية "بنسلفانيا" بتحويل اليورانيوم المصنّع للكيان الصهيوني. وكان مكتب التحقيقات حريصاً بالدرجة الأولى على صيانة الوثائق السرية المتعلقة بتقنية الأسلحة المخزونة في "أبولو". على أن بعض الزوار الصهاينة وبينهم "رفائيل إيتان" تمكنوا من الوصول إلى تلك الوثائق. وكان "إيتان" معروفاً حينذاك بعلاقته بالمخابرات الصهيونية. وهو نفس "إيتان" الذي انكشف تورطه فيما بعد بقضية الجاسوس "بولارد".

وفي عام 1969، وبناء على توصيات مكتب التحقيقات الفيدرالي، تمّ إلغاء عقد مؤسسة المواد والطاقة الذرية وسحب التصريح بإيداع الوثائق المتعلقة بالأسلحة فيها، وعدم السماح للدكتور "زالمان شابيرو"، رئيس المؤسسة، بالاطلاع على الوثائق.

في السبعينات: ربما كان الكولونيل "يوسف لانجوتسكي" أشد الجواسيس الذين أرسلهم الكيان الصهيوني إلى الولايات المتحدة إزعاجاً ومثابرة. وقد تنبّه له مكتب التحقيقات الفيدرالي بعد وقت قصير من تعيينه في أواسط سنة 1976 مساعداً للملحق العسكري في السفارة الصهيونية بواشنطن. وقد تمكّن من اختراق المناطق الحساسة المغلقة بوزارة الدفاع الأميركية مرات عديدة. وحاول بطرق غير لائقة تجنيد موظفين بوزارة الدفاع للتجسس. وبعد أن أنذرت الوزارة السفارة الصهيونية عدة مرات رفضت أن تتعاون معه بأي وجه ومنعته من الاتصال بها. وفي أوائل عام 1979 استدعته الحكومة الصهيونية.

في الثمانينات: في عام 1983 قام مكتب الأمن التابع لوكالة المخابرات بوزارة الدفاع الأميركية بتفتيش مكان عمل وبيت أستاذ كبير في كلية وزارة الدفاع للتجسس. وكان عدد من زملائه قد رفعوا تقارير حول علاقاته المشبوهة بمسؤولين صهاينة عسكريين يعملون بالمخابرات. ولم يعثر مكتب الأمن على أية وثائق سرية مسروقة خلال التفتيش لكنه عثر على مئات الكتب الممزقة التي كانت قد سُحبت بالاحتيال والتزوير من مكتبة الكلية وشُوّهت. وعلى أثر ذلك قامت وزارة الدفاع بإحالة القضية إلى النيابة العامة.

وأخيراً جرت تسوية مع الأستاذ، فاعترف في نوفمبر 1983 أمام محكمة المنطقة في ألكسندريا بولاية "فرجينيا" بأنه مذنب بالاعتداء على ممتلكات الدولة، فأصدرت المحكمة حكماً بإدانته وحكمت عليه بدفع غرامة. ولكن بدلاً من سجنه حكمت عليه بالقيام بأعمال لخدمة المجتمع خلال مدة معيّنة. وشملت التسوية وجوب استقالته فوراً من منصبه كموظف مدني في وكالة المخابرات التابعة لوزارة الدفاع والتي تدير الكلية. لكن لم تناقش المحكمة أي جانب أمني من جوانب القضية. بالرغم من أن بعض المسؤولين في الوكالة صرّح بأن التحقيق كشف عن اختفاء بعض المواد السرية من مكتبة الكلية. ويشغل هذا الأستاذ الآن منصب مدير دراسات الشرق الأوسط بإحدى جامعات واشنطن.



الضرر الذي سبّبه الجواسيس الصهاينة "الأصدقاء"

ذي كريستشيان سينس مونيتور The Christian Science Monitor الاثنين، 22 مايو 1989م

كان اعتقال "جوناثان بولارد" وإدانته "بالتآمر للقيام بأعمال التجسس" للكيان الصهيوني على الولايات المتحدة حدثاً مشحوناً بالمرارة في كلا البلدين. وحتى عندما تمّ الحكم عليه بالسجن مدى الحياة في مارس 1987 فإن العواطف لم تهدأ. صحيح أنه غاب عن الأنظار منذ ذلك الحين، لكن القضايا التي أثيرت بسبب تجسسه لا تزال تتفاعل.

لقد ساء كثيراً من الصهاينة قيام حكومتهم بتزويد المحققين الأميركيين ببعض الأدلة التي أقنعت بولارد بأن يعترف بأنه مذنب. وفي الوقت ذاته شعر كثير من اليهود الأميركيين أن الحكومة الصهيونية قد خيّبت أملهم فيها عندما أدين مسؤول صهيوني خلال الأشهر التالية بسبب تورطه في المؤامرة، وأعلن أن أربعة مسؤولين آخرين شاركوا فيها، ونُشرت تقارير عن ضلوع مكتب رئيس الوزراء الصهيوني فيها.

وفي البداية حارت أجهزة المخابرات الأميركية، العسكرية منها والمدنية، في أمر اعتقال "بولارد". ولكن منذ اعتقاله أخذ يتزايد شعورها بالغضب على الكيان الصهيوني وعدم الثقة بها، وذلك لأن تحقيقاتها الداخلية كشفت عن حجم العملية والضرر البالغ الذي ألحقته بأمن أميركا القومي، وعن عمليات صهيونية مشابهة للتجسس لم تكن معروفة.

وباختصار فإن قضية "بولارد" كان ولا يزال لها تأثير سلبي قوي على العلاقات العملية بين هذين البلدين اللذين عقدا تحالفاً أمنياً وثيقاً.

ولا عجب إذن في أن هناك محاولات جادة "لإعادة النظر" في القضية، وكسب العطف والتأييد لبولارد وزوجته التي كانت قد اعترفت بأنها مذنبة ولكن باقترافها جرماً أخف من جرم زوجها وهو "تسلّم ممتلكات حكومية" مسروقة.. فتألفت هيئتان إحداهما في نيويورك والأخرى في الكيان الصهيوني للعمل على إعادة الاعتبار للزوجين وجمع المال لدفع أجور المحامين وغيرها من تكاليف الدفاع عنهما. ويعمل كل من الدكتور مورس بولارد والد جوناثان ومحاميهما المشهور على الدفاع عنه على شاشات التلفزيون.

وألّف والد زوجته "برنارد هندرسون" كتاباً عنوانه "قصة جاسوس" يُخفّف من شأن الجرائم التي اقتُرفت، ويطالب بإخلاء سبيل الزوجين لاعتبارات إنسانية.

وقام "وولف بليتزر"، مراسل "الجيروزاليم بوست" في واشنطن، بتأليف كتاب آخر عنوانه "ساحة الأكاذيب" للغرض نفسه. وتحت هذا العنوان يجد القارئ عنواناً أصغر يقول بأن المؤلف هو الوحيد الذي مُنح حق الاتصال بالزوجين. والطريقة التي يستخدمها "بليتزر" هي تمكين "جوناثان بولارد" من انتقاء بعض مقاطع الاتهام وتجاهل أو تحريف المقاطع الأخرى.

والوتر الرئيسي الذي يضرب عليه الذين يطالبون بإعادة النظر في القضية هي أن الوثائق السرية التي سرقها "بولارد" وباعها لوحدة مخابرات خاصة تابعة لوزارة الدفاع الصهيونية ذات أهمية أساسية لبقاء الكيان الصهيوني. ويقول "بليتزر" بالاستناد إلى محامي "بولارد" إن المواد المسروقة تحتوي على معلومات عمّا لدى الدول العربية من أنظمة أسلحة وأجهزة مخابرات وقدرات عسكرية، كما تحتوي على تحليل لنوايا الزعماء العرب السياسية وعلى تفاصيل عن الأسلحة السوفييتية التي ستقدّم لأعداء الكيان الصهيوني.

ومؤخراً جرت مقابلة مع والد "بولارد" عُرضت على شاشة التلفزيون خلال برنامج محطة إي. بي. سي. المعروف باسم "نايتلاين". وقال خلالها بأنه يستطيع فهم شعور ابنه عندما علم بأن الولايات المتحدة لا تُطلع الكيان الصهيوني على ما جمعته مخابراتها من معلومات عن "مصانع الغاز في سوريا وعن الهجمات المنتظرة التي ستقوم بها منظمة التحرير من لبنان".

فالمدافعون عن "بولارد" يحاولون أن يُظهروه في صورة شاب يهودي أميركي لامع تمزّقه هواجس القلق على بقاء الكيان الصهيوني من ناحية، وواجبه بوصفه ضابط مخابرات أميركي في حفظ أسرار الأمن في بلاده من جهة أخرى. ولا تخلو هذه الصورة من شيء من المنطق وحتى من الحقيقة. ولكن ليس هذا هو السبب الذي حُكم من أجله بالسجن المؤبد على "بولارد". فالقضية أكبر بكثير.

ذلك أنه بعد اعتقال "بولارد" في نوفمبر 1985 بوقت قصير تأكد لمحققي وزارة الدفاع ومكتب التحقيق الفيدرالي أن غالبية ما سرقه من وثائق لا علاقة له البتّة بمصالح الأمن الأساسية للكيان الصهيوني. وقد أقلق هذا الحكومة الأميركية أكثر مما أقلقها ذلك العدد الهائل من الوثائق المسروقة التي تبلغ نحو 850.000 صفحة، أو حتى درجة السرية المصنّفة تبعاً لها. فأكثر من نصفها كان مصنّفاً بأنه سري من الدرجة الأولى.

فالمشكلة التي واجهت المحققين كانت في أساسها تتلخّص في أنهم تأكدوا من القوائم المخبأة في طاولة "بولارد" أنه كان يعمل وفقاً لطلبات وإرشادات محدّدة، أي أن العملاء الصهاينة كانوا قد توصّلوا إلى معرفة الوثائق التي يريدونها بعناوينها وأرقامها. فتبادر إلى أذهانهم للوهلة الأولى أن هناك عميلاً مجهولاً كان يوجّه بولارد نحو الوثائق المطلوبة. لكن المحققين تمكّنوا باستخدام جهاز كشف الكذب من حمل "بولارد" على الاعتراف بما شك فيه المسؤولون في وزارة الدفاع منذ البداية، فقال بأن إحدى الوثائق الأولى التي طُلب منه أن يسرقها هي الدليل الضخم لمعرفة الوثائق العسكرية السرية الذي يتجدّد كل ثلاثة أشهر. ففي هذا الدليل قوائم بأسماء عشرات الآلاف من الوثائق مع نبذة قصيرة عن محتويات كل منها. وعليه فإنه لم يعد هناك مجال لافتراض وجود عميل مجهول.

وهكذا فإن ما حصل عليه الصهاينة منه كان بالضبط ما أرادوه. فما الذي حصلوا عليه؟ جاءت الصدمة الأولى التي أصابت محققي مكتب التحقيق الفيدرالي عندما حلّلوا خمساً وعشرين وثيقة مسروقة وجدوها في حقيبة كانت "آن بولارد" - زوجة بولارد - قد أخرجتها من شقتهما بناء على تعليماته لها بعد أن قامت وزارة الدفاع بالتحقيق معه. وتبيّن أن عدداً كبيراً منها من النوع السري للغاية، وكلها تقريباً تتعلّق بالقدرات والأسلحة الأميركية. والسؤال الآن هو: لماذا كان الإسرائيليون يريدون هذه المعلومات؟

إن الإجابة على هذا السؤال كما يُفهم من كبار مسؤولي وزارة الدفاع والعاملين بمكافحة التجسس في مكتب التحقيقات الفيدرالي الذين راجعوا التعليمات التي تلقّاها بولارد من العملاء وسجّلها لا تزال هدفاً رئيسياً للتحقيق. وقد تبين من سجلات التعليمات هذه والسجلات الكمبيوتر في قسم المخابرات بوزارة الدفاع حيث تمكّن "بولارد" من الحصول على أكثر الوثائق المسروقة أن أكثر الوثائق التي سلّمها "بولارد" للعملاء لا تتصل إطلاقاً بالشرق الأوسط، فهي تشتمل على تفاصيل متعلّقة بالمخابرات والقدرات والاتصالات العسكرية الأميركية والروسية. كما تشتمل حسب ما جاء في لائحة الاتهام على تفصيلات عن مواضع السفن ومحطات الطيران الأميركية وأساليب القتال، وطرق تدريب الجند في الجيش الأميركي. ولم تكن هناك أهمية لأكثر هذه المعلومات إلاّ لدى بلد واحد وهو الاتحاد السوفييتي.

وتزايد قلق الأميركيين خلال التحقيق مع "بولارد" عندما كشف سوفييتي كان قد هرب إلى الولايات المتحدة أن هناك بالإضافة إلى الجاسوسين السوفييتيين اللذين قُبض عليهما في الكيان الصهيوني وسُجنا (وهما شبتاي كلمانوفيتش وماركوس كلينبرغ) جاسوس ثالث بالكيان الصهيوني لم يُقبض عليه. وأضاف أن هذا يحتل مركزاً مهماً في وزارة الدفاع الصهيونية وأنه لا يزال يزاول التجسس. ومن المحتمل أن تكون الأسرار التي أرسلها "بولارد" إلى الكيان الصهيوني قد وجدت طريقها إلى الاتحاد السوفييتي سواء أكان هذا هو الهدف أم لم يكن.

وهناك نغمة أخرى يضرب عليها المدافعون عن "بولارد" وهي أن الحكم الذي صدر عليه كان قاسياً جداً لأن الوثائق المسروقة بغض النظر عن حجمها وأهميتها أرسلت إلى دولة حليفة. كما أنهم يشكّكون في وقوع ضرر كبير نتيجة لذلك. وتناسى هؤلاء أنه من المؤكد أن المذكرة التي أعدّها كاسبر وينبرغر وزير الدفاع الأسبق عن الضرر الذي ألحقه بولارد بالولايات المتحدة وتقع في 46 صفحة هي التي حملت القاضي أوبري روبنسون على الحكم عليه بالسجن مدى الحياة.

وفي الأشهر التي أعقبت سجن بولارد حمل مناصروه على وينبرغر بسبب دوره في إصدار الحكم. وقد وصف المستر درشوفيتز مذكرة وينبرغر بأنها "مستنقع قذر". وقال أيضاً في مقال صحفي "إن وزارة الدفاع لا تستطيع أن تنتظر من الشعب الأميركي بأن يقبل مبالغاتها المفضوحة على علاّتها، وخاصة عندما تضرب بالمنطق عرض الحائط".

أما "بليتزر" فكان أكثر تحفظاً في كتابه. إذ اعترف بأن "بولارد" ألحق بالفعل ضرراً بالأمن القومي الأميركي، إلاّ أنه أضاف تحذيراً غريباً للقارئ عندما يقول بأنه تمّ احتواء قسم كبير من الضرر "بسبب فضح العملية" من جهة، وتعاون مسؤولي المخابرات الأميركية والصهيونية- وإن لم يكن تعاونهم كاملاً- على إصلاح الضرر.

والملاحظ أن هناك أمرين يشترك فيهما جميع الذين دافعوا عن "بولارد": الأول تفاؤلهم الذي لا مبرر له، والثاني إساءة فهم شديدة لضرورات أي جهاز أمني. فالمعلومات التي أرسلها "بولارد" للصهاينة تشمل المواد التالية:

- معلومات عن الأنظمة الفنية للمخابرات والأخبار التي جُمعت بواسطتها.

- دراسات تحليلية مفصّلة تشتمل على حسابات ورسوم بيانية وصور للأقمار الصناعية وأسماء الذين قاموا بها.

- معلومات عن أشخاص أغفلت أسماؤهم ولكن يمكن لمحلّل قدير في المخابرات أن يعرفها.

- ثلاث فئات من المراسلات اليومية طوال سبعة عشر شهراً.

اعترف "بولارد" بأنه لم يقتطع أي جزء من الوثائق التي سلّمها لعملاء الكيان الصهيوني. والواقع أن الوثائق التي وُجدت في شقته كانت كاملة. وكذلك كان الأمر بالنسبة للوثائق التي أعادها الإسرائيليون وعددها 163 وثيقة. ومعنى هذا أن الوثائق اشتملت على جميع التفاصيل عن مصادر الأخبار وطرق جمعها. وحتى لو أن بولارد حاول أن يقتطع أجزاء من الوثائق لما استطاع، وذلك لعدم قدرته على ذلك، خاصة وأنها تقع في آلاف الصفحات وتتناول مئات الموضوعات.

ولنأخذ مثلاً على ذلك الوثائق المسروقة التي تشتمل على صور عسكرية التقطتها الأقمار الصناعية الأميركية. فلو نشرت صورة من تلك الصور في مجلة عسكرية فكلّ ما يمكن لأجهزة التجسس الأجنبية أن تستخلصه منها هو أن وكالة الأمن القومية مهتمّة بموضوع الصورة بالإضافة إلى تكوين فكرة عن قوة الكاميرات المثبتة في الأقمار الصناعية. أمّا إذا استطاعت تلك الأجهزة الحصول على الصور الأصلية أو حتى على نسخ جيدة من تلك الصور، فإنها تستطيع أن تحصل على المعلومات الفنية التي يسجلها جهاز القياس في القمر الصناعي مثل موضع ذلك القمر الزمني وعلوّه. وعند وقوع هذه المعلومات في يد أجنبية يتعيّن على وكالة الأمن القومية أن تقوم بعملية باهظة التكاليف، وهي تغيير موضع القمر أو حتى مساره كلّه، وذلك لأن انكشاف المعلومات يحرم صاحبها من عنصر المفاجأة.

وهذا هو ما قصده "وينبرغر" عندما أشار إلى ضياع "مكاسب قومية استغرق الحصول عليها سنوات من الجهد المتواصل وتسخير الموارد الوطنية". ولقد قامت ثلاث جهات منفصلة في وزارة الدفاع بتخمين الأضرار الناجمة عن سرقة الوثائق، لكنها لم تستطع أو لم تشأ كشف مقدارها بالدولارات. لكن كلا منها تحدّثت عن "عدة بلايين من الدولارات" كتقدير إجمالي، وقالت بأن غالبية الأضرار لحقت بوكالة الأمن القومي.

هذا عدا شبكات التجسس التي انكشفت والمخاطر الشديدة التي يتعرض لها الجواسيس الذين كشف عن هوياتهم ومواضعهم ونشاطاتهم.

والواقع أنه لا فرق بين وصول الوثائق إلى الكيان الصهيوني أو إلى بلد آخر كتشيكوسلوفاكيا. فلا يمكن لأي جهاز أمن قومي في العصر الحديث أن يعرض حياة العديدين للخطر وأن يغامر ببلايين الدولارات في عمليات لا يسيطر على سريتها. فمتى ذهبت السرية ذهب كل شيء. وحتى لو افترضنا أن بولارد بعث بالبريد نصف تلك الوثائق لمقر المخابرات الروسية (الكي. جي.بي.) بموسكو وأودع النصف الآخر لدى صديق له في بثيسدا بولاية ماريلاند فإن ذلك لا يغيّر شيئاً من قيمة الأضرار التي ألحقها بالأمن القومي.

وفي هذه الحالة سلمت المواد إلى دولة أجنبية كانت الولايات المتحدة تعتقد أن السوفييت تغلغلوا في أجهزة مخابراتها. وعندما سئل المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (السي. آي. إي.) ريتشارد هلمز مؤخرا عمّا إذا كان على الولايات المتحدة أن تفرّق بين أولئك الذين يبيعون الأسرار "للأصدقاء" وبين الذين يبيعونها "للأعداء" كان جوابه أنه لا فرق بين هؤلاء وأولئك "لسبب بسيط وهو أننا لا نعرف شيئا عن أجهزة الأمن في تلك الدول".

والواقع أن تعليق "هملز" يؤكد على أمر هام آخر بالوثائق التي وصلت إلى الكيان الصهيوني عبر بولارد وهو أن الكيان الصهيوني يعتبر الدولة الوحيدة التي كان يمكن لها أن تستخدم ذلك القدر الكبير من الوثائق.

كان رفائيل إيتان مدير الـ "ليكيم" أي الوحدة في وزارة الدفاع الصهيونية التي أدارت عملية بولارد هو مستشار إسحاق شامير وشيمون بيريز حول شؤون المخابرات ومكافحة الإرهاب. ويذكر بليتزر في كتابه أنه عندما تولّى بيريز رئاسة الوزراء في سبتمبر 1981 (أي بعد تجنيد بولارد لسرقة الوثائق بوقت قصير) "طلب من إيتان أن يتخلى عن مسؤوليته في مكافحة الإرهاب". لكن ما لا يذكره بليتزر هو أن إيتان ظل يمارس عمله في المخابرات بمكتب رئيس الوزراء إلى أن تم القبض على بولارد.

وربما كان الجانب الأشد إحراجاً للكيان الصهيوني من قضية بولارد، والسبب الرئيسي الذي من أجله يرغب المتورطون مباشرة فيها أن يطلق سراحه وأن يتم إغلاق القضية نهائياً هو الإطار السياسي الذي تمت فيه العملية. إذ يخشى الكيان الصهيوني طرح المزيد من الأسئلة التي تكشف عن تورطه في التجسس على الولايات المتحدة ؟ وهل كان بولارد الوحيد الذي قبض عليه وهو يتجسس أم أنه كان الوحيد الذي قبض عليه وحوكم ؟.

الواقع أن "بولارد" لم يكن أول من فعل ذلك كما أنه لم يكن أول جاسوس للكيان الصهيوني يقبض عليه أو حتى يقبض عليه ويحاكم. ويفرّق بليتزر بين نوعين من التجسس : أوّلهما ما يسمّيه بالتجسس الودّي أو تجسس الأصدقاء، والثاني هو التجسس الخسيس الذي يجند من أجله العملاء ويدفع المال لقاء الحصول على المعلومات. ويتم النوع الأول بوسائل فنية مكشوفة أو عبر الملحقين العسكريين بالسفارات وغيرها، وهذا ما يفعله الجميع. ويضيف بليتزر أن الولايات المتحدة وإسرائيل كانتا منذ عشرات السنين تلتزمان باتفاق يقضي بعدم ممارسة إحداهما النوع الثاني ضد الأخرى.

وما يقوله "بليتزر" كلام فارغ. فالحكومة الصهيونية ذاتها كانت أكثر صراحة منه. فبعد اعتقال بولارد بوقت قصير أصدر بيريز رئيس الوزراء بياناً يقول فيه : "إن التجسس على الولايات المتحدة يتنافى كلياً مع سياستنا". لكن من الواضح أن ما يقوله غير صحيح. فالحكومة الصهيونية كانت منذ فتح سفارتها في واشنطن عام 1948 تتجسس على واشنطن.

أن هناك أدلة ثابتة على قيام الكيان الصهيوني بعمليات مشابهة لعملية "بولارد". لكن لماذا بقيت تلك العمليات بعيدة عن الأضواء ؟ أجاب على هذا السؤال مسؤول كبير في مكتب التحقيقات الفيدرالي فقال : "إن 95% من تلك المعلومات لم تصل المحاكم". وأضاف هذا المسؤول أنه هو نفسه أعدّ ملّفين كاملين لعمليتين مشابهتين لعملية بولارد وذلك لإقامة دعوى مماثلة. لكن تم إسقاط الدعوى في كلّ من الحالتين في اللحظة الأخيرة.

ومن المؤكد أن "بولارد" لم يكن أول جاسوس للكيان الصهيوني في أميركا. ويحتمل أن لا يكون آخر جاسوس. لكنه كان أكثر الجواسيس نشاطاً وفعالية. ومهما يكن من أمر فإنني أشعر أن كثرة من المسؤولين في المؤسسة العسكرية الأميركية وفي أجهزة المخابرات سوف يسعدهم أن يطلق سراح بولارد وزوجته وأن يسمح لهم بالذهاب إلى الكيان الصهيوني. لكن هذا يتوقف على ما يمكن أن تحصل عليه الولايات المتحدة مقابل ذلك. فقد يحدث تبادل ثلاثي للجواسيس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يشمل الجواسيس السوفييت في السجون الصهيونية. ويمكن القول بصورة عامة إنه ليس هناك شعور بالنقمة على بولارد شخصياً في واشنطن. لكن من المؤكد أن أي جاسوس صهيوني آخر سينكشف أمره في الولايات المتحدة وسيعامل كجاسوس.



فضيحة "بولارد".. خلف خطوط العدو

من: ذي واشنطن ريبورت أون ميدل إيست أفيرز The wachington Reporg on Midle East Affaires تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط، مجلّد 5 عدد 10، فبراير 1987م.

يبدو أن الإعلام الأميركي لم يكتشف إلى الآن خطورة عملية التجسس التي قام بها جوناثان جي بولارد. غير أن المذكّرة التي تشتمل على حيثيات الدعوى التي أقامتها وزارة العدل عليه في 5 يناير 1987 وقدّمتها إلى المحكمة الفدرالية في واشنطن تثبت أنه من أخطر الجواسيس الذين عملوا ضد الولايات المتحدة في هذا القرن. كما أنها تشتمل على أدلة دامغة جديدة تثبت مدى تورط الحكومة الصهيونية فيما حاولت التقليل من أهميته ووصفه بأنه مجرّد "عملية قام بها سفيه".

فالضرر الذي ألحقه "بولارد" بمصالح الأمن الأميركي قد يكون من المستحيل الإحاطة بأبعاده. فما قدّمه للصهاينة يشتمل على أكثر من ألف وثيقة سرية بينها وثائق تقع الواحدة منها في مئات الصفحات. ومنها ما كان مصنّفاً بين الوثائق السرية جداً أو ما يُعرف "بالوثائق المصنفة الحساسة" التي تشتمل على "معلومات عن الأنظمة التكنولوجية المتقدّمة لجمع المعلومات وما جُمع بواسطتها".

وتشتمل هذه الوثائق على معلومات مفصّلة عن حكومات الشرق الأوسط وجيوشها، وعن مواضع السفن وأساليب الحرب وأنظمة الأسلحة الأميركية، وعن تحليل الأميركيين لأنظمة الصواريخ السوفييتية. كما تشتمل على معلومات وافرة عن أساليب المخابرات الأميركية البشرية والإلكترونية في جمع الأخبار. وحذّرت وزارة العدل بصورة خاصة من أن الحصول على تلك المعلومات يكشف هوية المخبرين الذين تستخدمهم المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط وربّما في أماكن أخرى.

لمن سلّم "بولارد" هذه الوثائق؟ في البداية على الأقل وصلت غالبية هذه الوثائق المسروقة إلى الحكومة الصهيونية. كما أن بولارد وزوجته قدّما بعض هذه الوثائق لجمهورية الصين الشعبية وأطلعا بعض أصدقائهما عليها.

ومما يلفت النظر أن المعلومات التي سرقها بولارد باستخدام جهاز الكمبيوتر المشترك بين مختلف الوكالات تكاد لكها أن تقع خارج اختصاصه (وهو الإرهاب) وخارج منطقة تجسسه (وهي أميركا اللاتينية). وبعبارة أخرى فإن تلك المعلومات من النوع الذي لا حاجة به لمعرفته. وعلى أي حال فإن نظام حماية المعلومات السرية جداً قد انهار تماماً. وعندما أقام بولارد أول اتصال له بالصهاينة أبلغهم أنه يريد أن يستغل بعض الجواسيس العاملين في جهاز المخابرات الأميركية لصالح الكيان الصهيوني. ومن المؤكد أنه فعل ذلك.

ولما كان "بولارد" من أكبر الجواسيس، فإنه كوفئ على دوره بالعناية والحماية والتعويضات التي تتناسب معه. وتتناول مذكرة وزارة العدل التي قُدمت للمحكمة الفدرالية مدى تورط الحكومة الصهيونية المباشر وحجم العملية الذي يشمل الأموال والأشخاص الذين شاركوا فيها والمهارة الفنية العالية لشبكة بولارد. وتأتي المذكرة على ذكر المتورطين وهم ثلاثة مسؤولين في الحكومة الصهيونية، وسكرتير بالسفارة الصهيونية، بالإضافة إلى صهيوني يُعرف باسم "أوزي" ورجل آخر لا يعرف اسمه كان يساعد في نسخ الوثائق في بيت دبلوماسي صهيوني في ولاية ماريلاند لم يُذكر اسمه. واستخدمت شقة وربما شقتان بجوار السفارة الصهيونية للاجتماعات. وكانت أحداهما مجهزة بآلات استنساخ متطورة جداً. وزُوّد بولارد برقم هاتف بالسفارة الصهيونية للاتصال بها في الليل عند الضرورة. فقد كان نجماً من نجوم الجاسوسية.

أما عن النقود فلا تسل. فقد تسلّم مبلغ 50.000 دولار خلال ثمانية عشر شهراً ووعد بأن يقبض 450.000 دولار أخرى خلال السنوات العشر التي كان ينتظر أن تستمر فيها عملية التجسس. وجرى كذلك إيداع 30.000 دولار باسمه في أحد بنوك سويسرا. هذا فضلاً عن الجواهر وغيرها من الهدايا التي قُدمت له ولزوجته. وكان هذا كلّه لتشجيع بولارد على المضي قدماً بالمؤامرة. واشتملت النفقات الأخرى على مرتبات المشاركين الآخرين وعلى تكاليف أجهزة النسخ والاجتماعات في أوروبا وإسرائيل. وعليه فإنها كانت عملية باهظة التكاليف.

واشتملت مذكرة وزارة العدل على أدلة أخرى على تورّط الحكومة الصهيونية المباشر في العملية:

- بعد ساعات قليلة من اعتقال بولارد قامت الحكومة الصهيونية بتهريب المسؤولين الإسرائيليين اللذين كانا يوجّهان بولارد من الولايات المتحدة وهما الكولونيل أفييم سيلا وجوزف ياغور.

- كان سيلاً (ولا يزال) منخرطاً في القوات الجوية الصهيونية. وبعد أن اعتقل بولارد تمّت ترقيته. وهو الآن قائد قاعدة ريمون الجوية في الكيان الصهيوني. وخلال عملية التجسس كان رفائيل إيتان، جاسوس الموساد الأكبر والمستشار السابق لرئيسي الوزراء مناحيم بيغن وإسحاق شامير، يعمل بوزارة الدفاع الصهيونية. وتلقّى هو أيضاً مكافأة من الحكومة الصهيونية التي أسندت إليه منصب المدير التنفيذي الأكبر لشركة الكيماويات الصهيونية، وهي أكبر شركة تملكها الحكومة في تلك البلاد.

- كان سيلاً وإيتان يُطمئنان بولارد باستمرار إلى أنه إذا قُبض عليه فإن الحكومة الصهيونية ستعالج المسألة عبر القنوات الدبلوماسية. وحدث مرة أنهما أظهرا له جواز سفر عليه صورته واسم مختلف.

- وفي يوليو وأغسطس عام 1985 قضى بولارد وزوجته عدة أسابيع في الكيان الصهيوني زار خلالها إيتان في مستشفى بتل أبيب. وإذا تذكرنا مركز "بولارد" في المخابرات البحرية الأميركية وماضي "إيتان" في ميداني السياسة والمخابرات، فإنه يصبح من الصعب أن يصدّق المرء أن المخابرات الصهيونية المضادة لم تكن على علم بزيارة بولارد واتصالاته. لكن الكيان الصهيوني مع هذا لم يبلّغ الحكومة الأميركية شيئاً عن زيارته.

- في كل أسبوعين وعلى امتداد ثمانية عشر شهراً كان سيلا وياغور يتعاقبان على نقل طلبات مفصّلة بالمعلومات التي يراد من بولارد سرقتها من الكمبيوتر. ولم تكن هذه من قبيل المعلومات العامة. فقد كان سيلا وإيتان وعلى الأخص ياغور يطلبان منه معلومات عن أنظمة أسلحة سرية معينة. وكانا أحياناً يطلبان وثائق معيّنة بعناوينها وأرقامها وهكذا. ومن الواضح أن مثل هذه ا لطلبات الفنية الدقيقة لا تصدر إلاّ عن جهاز استخبارات كامل. ونظراً لارتباطات إيتان الماضية، فإنه يرجّح أن يكون هذا الجهاز هو الموساد.

- لم تكتف الحكومة الصهيونية بعدم التعاون مع مكتب التحقيق الفيدرالي وجهاز التحقيق البحري (NIS ) خلال التحقيق في قضية بولارد، بل إنها سعت جاهدة إلى عرقلته. فبالإضافة إلى قيام الإسرائيليين بتهريب سيلا وياغور بسرعة من الولايات المتحدة، فإنهم رفضوا إعادة 80% من الوثائق التي سرقها بولارد. وعلاوة على هذا فإن الوثائق التي أعادوها وعددها 163 وثيقة كانت كلها نسخاً ولا تحمل بصمات بولارد. ولم تُعد الكيان الصهيوني وثيقة أصلية واحدة، وبذلك حرمت مكتب التحقيق الفيدرالي وجهاز التحقيق البحري من أدلة مادية في غاية الأهمية.

وختمت وزارة العدل مذكّرتها بالقول بأن العلاقات الرسمية الأميركية مع البلاد التي تتلقى الوثائق المسروقة لا تأثير لها في الضرر الذي لحق بمصالح الأمن القومي، وينبغي أن لا يكون لها أي تأثير على صرامة العقاب الذي يجب أن ينزل بالجاسوس في حالة ثبوت التهمة عليه. كما أنها تحدثت عن أسلوب "العَلَم المزيّف" الذي يُتبع في الجاسوسية. وخلاصته أن الجاسوس يخدع المُخبر فيوهمه أنه يعمل لصالح دولة صديقة أو حليفة.

والمثل الذي ضربته وزارة العدل على أسلوب "العَلَم المزيّف" في التجسس هو ما حدث لجيري وٍتوورث الذي تمكنت المخابرات السوفييتية (كي.جي.بي) من إيهامه بأنه يعمل لصالح الكيان الصهيوني لا الاتحاد السوفييتي. وتضيف مذكرتها بأنه عندما يصدر الحكم على بولارد يجب أن يُشار إلى أن إي انتهاك لقوانين الأمين ينبغي أن يعاقب بشدة وذلك لكي لا يقع البعض ضحية الإغراء فيتعامون عن القوانين عندما يقال لهم بأنهم يعملون لمصلحة حليف.

ومما يلفت النظر أن وزارة العدل لم تُشر مرة واحدة في معالجتها لأسلوب "العَلَم المزيّف" التي ملأت عدة صفحات من مذكّراتها إلى أن هذا هو ما جرى لبولارد. فبدا وكأنها تقول بأن إيتان وصحبه كانوا، كما قالوا، عملاء للحكومة الصهيونية.

وبالإضافة إلى هذا طلب محامو الاتهام إنزال عقوبة صارمة ببولارد لأنه إذا أخلي سبيله فإنه قد يفضح معلومات سرية أخرى. فإلى أين سيذهب بولارد؟ قالت وزارة العدل بأن جريدة "الجيروزاليم بوست" نشرت مقالاً في 21 نوفمبر 1985 يشتمل على تصريح لبولارد يعبّر فيه عن رغبته في الهجرة إلى الكيان الصهيوني. فإلى من كان سيُفشي بما بقي لديه من معلومات؟ ثم إن تشديد المذكرة على ما عبّر عنه بولارد مراراً من حب وإخلاص للكيان الصهيوني لا يدع مجالاً للشك في أنه لو هاجر إليها لقامت الحكومة الصهيونية باستغلال ذاكرته وخبراته.

وما لم تقله وزارة العدل في مذكرتها بالرغم من أنه واضح كل الوضوح هو أن الحكومة الصهيونية هي التي كان باستطاعتها أن تستفيد من أكثر المعلومات التي حصلت عليها بواسطة بولارد لأنها تتعلق بحكومات الشرق الأوسط وأنظمة الأسلحة الأميركية التي تستخدمها الكيان الصهيوني. وأرفقت وزارة العدل مذكّراتها بمقال من "الجيروزاليم بوست" عنوانه: "بولارد المذهول : لماذا تخلّت إسرائيل عني؟" وفي المقال ذاته يشبّه بولارد حاله بحال طيّار صهيوني سقط وراء خطوط العدو وتركته الكيان الصهيوني لمصيره التعس. ولكن "الجيروزاليم بوست" كانت مخطئة. فبولارد لم يُصب بالذهول. فقد كان ولا يزال وراء خطوط العدو.



فضيحة "إيران جيت".. هل وقع الإعلام الأميركي ضحية لمعلومات إسرائيلية مضلّلة؟

كُتب بالاشتراك مع مارك بروزونسكي الخبير بشؤون الشرق الأوسط ونُشر في جريدة "بي فينال Bee Final " بسكرمانتو في 21 أكتوبر 1987م.

في نوفمبر 1986 أخذت وسائل الإعلام الأميركية والإسرائيلية تذيع أن فئات إسرائيلية قامت ربما بمساعدة من الحكومة الصهيونية بدفع إدارة ريغن إلى تزويد آية الله الخميني بالأسلحة.

وعندما قام المدّعي العام "ادوين ميز" بتأكيد الخبر في مؤتمره الصحفي المشهور بتاريخ 26 نوفمبر، نفى إسحاق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي بغضب أن تكون الكيان الصهيوني لعبت دور المحرّض والمشجّع في القضية. فما كان يخشاه المسؤولون الإسرائيليون هو أن يتخذ البيت الأبيض من الكيان الصهيوني كبش فداء في محاولة منه لشرح ما لا يُشرح للشعب الأميركي.

وفي يناير 1987 اشتدّ قلق الكيان الصهيوني عندما أتت اللجنة المختارة بمجلس الشيوخ الأميركي للنظر في قضايا المخابرات بالتفصيل على وصف الدور الرئيسي الذي قام به ديفيد كيمحي وأميرام مير، وحتى رئيس الوزراء السابق شيمون بيريز، في إقناع البيت الأبيض بإرسال الأسلحة إلى إيران واقتطاع جزء من الربح لتمويل الكونترا بنيكاراغوا.

ومما زاد في قلق الكيان الصهيوني أن هذه الفضيحة تكشّفت في أعقاب افتضاح أمر بولارد. وكان من الواضح أنه لا بد من عمل شيء لإزالة الانطباع المتزايد في أميركا بأن كبار المسؤولين في الحكومة الصهيونية استغلّوا سذاجة الإدارة الأميركية. فكلّفت الحكومة الصهيونية مورتيمر زكرمان بالقيام بهذه المهمة.

وزكرمان هذه تاجر عقارات وثري كبير معروف جيداً في الأوساط الصهيونية والأميركية اليهودية بسخائه في مساعدة الكيان الصهيوني. وحذا حذو مارتن بيريز الذي اشترى مجلة "نيو ريببلك New Republic " فقام بشراء عدد من المجلات والمنشورات الكبرى الأميركية بينها مجلة "يو. أس. نيوز أند وورلد ريبورت" Us New & World Report لأغراض من أهمها مساعدة الكيان الصهيوني في ميدان العلاقات العامة. وقد استطاع الإسرائيليون أن يتسللوا إلى مجلته هذه ويسخّروها لخدمة حملتهم الإعلامية للتضليل وتحريف الأخبار في أميركا. وحتى الآن لا يُعرف ما إذا كان زكرمان قد سمح لهم بذلك من تلقاء نفسه، أم أنهم استغلوا سذاجته في ذلك السبيل.

وفي أواخر السبعينات تراجع زكرمان عن تعهده بمد مجلة "نيشن Nation " بالمساعدات المالية لأنها نشرت مقالاً تُلفت فيه الأنظار إلى الروابط بين الكيان الصهيوني وجنوب أفريقيا، ورفضت الرضوخ لمحاولاته في حملها على تغيير تغطيتها لأخبار الشرق الأوسط. وفي عام 1982 وبعد أن اشترى زكرمان مجلة "أتلانتك" المعروفة بمستواها الرفيع ورصانتها صرّح بكل وضوح لجريدة "النيويورك تايمز" أنه بالرغم من حرصه على المحافظة على مستوى المجلة وخصوصاً على تمسّكها بالرأي الحر، فإنه لن يسمح بنشر أي مقال "يتحدّى حق الكيان الصهيوني في الوجود".

لكن يبدو أن ما كان يدور بذهنه يتعدّى هذا بكثير. فبعد أن اشتراها بوقت قصير قام بنشر مقال افتتاحي فيها عن حادث الهجوم الصهيوني على السفينة ليبرتي الذي أدّى إلى قبل أكثر من ثلاثين أميركياً. على أن المقال كان نموذجاً للتزوير والخداع أعدّه كاتبان إسرائيليان مشبوهان، وتجاهلا فيه التقارير السابقة الموثقة. وكان من الواضح أنهما كانا يرميان إلى إقناع الأميركيين بأن الحادث كان عرضياً لا مدبّراً.

لكن بعد أن اشترى "يو. أس. نيوز…" في عام 1984 بوقت قصير، أخذ المحررون يلاحظون أن الذي يقوم بإعداد المقالات التي تتناول شؤون الشرق الأوسط هيئة أبحاث وتقارير صحفية مركزها في القدس واسمها "دبث نيوز Depth New". ولم يكن يُعرف عندئذ شيء يُذكر عن هذه الهيئة سوى أن حلقة الوصل بينها وبين المجلة شخص اسمه جيورا شاميش. وفيما بعد عُلم أن أحد أركان الهيئة جنرال سبق له أن كان يعمل في المخابرات العسكرية الصهيونية.

ولم تلبث الشكوك أن أخذت تساور أولئك المحررين حول احتمال تورّط هيئة"ربث نيوز" مع الموساد. ومن ثم أخذوا يطرحون الأسئلة باستمرار عن هذا على ديفد جيرجن رئيس تحرير المجلة الذي سبق له أن كان مدير الاتصالات بالبيت الأبيض. لكنه أكّد لهم أن شاميش صحفي معروف ومحترم وأنه لا علاقة للموساد بالهيئة المذكورة.

وفي فبراير 1987 تلقّت المجلة (يو. أس. نيوز…) معلومات من "دبث نيوز" مفادها أن الدافع لعملية إيران- كونترا لم يكن مصدره الحكومة الصهيونية بل الحكومة الإيرانية ذاتها. فطُلب من قسم الأخبار الخارجية في المجلة إعداد مقال افتتاحي يشرح بالتفصيل "لَسعة" الخميني لإدارة الرئيس ريغن. فلو صحّت المعلومات الواردة فيه – وأكثرها بعيد عن الصحة- فإنها تُبرّئ الكيان الصهيوني مما نسب إليها، وتصبح كالولايات المتحدة ضحيّة لدهاء الإيرانيين. وكما هو متوقّع فإن المقال أثار شكوك كثرة من المحررين.

وعندما تمّ إعداد مسودّة المقال أُرسل إثنان من هيئة تحرير المجلة وهما ستيفن إمرسون ومِل إلفِن إلى الكيان الصهيوني للتحقق من الوقائع التي وردت من "دِبث". على أنهما عندما عادا قالا بأنهما لم يستطيعا التحقق من تلك الوقائع، وطلبا فكّ ارتباطهما بالمقال.

وفي المراحل الأخيرة من إعداد المقال تمّ استدعاء شاميش من القدس وخُصّص له مكتب صغير لإنهاء التحقق من الوقائع الواردة فيه. وفي 30 آذار خصّصت المجلة عشر صفحاب لِ "لسعة الخميني الكبرى". وبالرغم من أن المقال يستشهد كثيراً بمراجع شرق أوسطية فإنه يخلو من أي إشارة إلى دور الكيان الصهيوني في عملية إيران- كونترا ولا يذكر على الإطلاق المصدر الرئيسي الصهيوني للمقال ولا كاتبه أو كاتبيه، وذلك لأن الذين أعدّوه رفضوا أي ارتباط به.

وقد دفع زكرمان لهيئة "دبث نيوز" مبلغ 35.000 دولار ثمناً للمقال. وأصبحت دبث في الأسابيع والأشهر التالية، بناءً على إصرار زكرمان وجيرجن، المصدر الرئيسي لتغطية مجلة "يو. أس. نيوز…" لأخبار الشرق الأوسط. وعُيّن شاميش محرراً بالمراسلة في المجلة على أثر نشر المقال وذلك لتوفير غطاء له في حال التساؤل عن صدقه.

ومنذ أن اشترى زكرمان مجلة "يو. أس. نيوز…" استقال منها نحو خمسين من المشاركين في إعدادها لأسباب أكثرها يتصل بعدم خبرته المهنية، وتصرفاته الدكتاتورية، وانحيازه في كل ما يتعلّق بإسرائيل. وترك المجلة عدد من أعضاء هيئة التحرير بسبب المقال عن "لسعة" الخميني. وأصبح من الواضح أن المحلة فقدت استقلالها السابق في معالجة شؤون الشرق الأوسط.

وقال أحد الذين تركوا المجلة : "لقد ترك الكثيرون منا العمل في المجلة لأنهم لم يريدوا الارتباط بمنشورة تستخدمها الكيان الصهيوني في تحريف المعلومات".

وعندما سئل جيرجن عن استقالات أعضاء هيئة التحرير نفى أن يكون أحد منهم قد استقال بسبب المقال- هذا بالرغم من أننا قابلنا عدداً من المستقيلين الذين قالوا عكس ذلك. كما أكّد جيرجن أنه لا يزال يؤيّد كل ما جاء في المقال. وعندما سئل عن اتصالات شاميش بالمخابرات بدا عليه الاهتمام والحرج وظل يُحيلنا على شاميش بالقدس.

وهكذا وبينما كان "بولارد" يقوم بفضح أسرار أميركا العليا، وبينما كان المدير العام لوزارة الخارجية الصهيونية ومساعد كبير لرئيس الوزراء الإسرائيلي يزجّان البيت الأبيض في قضية إيران، كان الإسرائيليون على ما يبدو يتسللون إلى الصحافة الأميركية للتضليل. وفي النهاية كان الشعب الأميركي أو على الأقل أولئك الذين يقرأون مجلة "يو. أس. نيوز…" هم الذين لُسعوا.

أربعون سنة من تجسس الكيان الصهيوني على الولايات المتحدة

ذي كريستشيان سينس مونيتور- 22 مايو 1989م، نقلاً عن (مستقبليات).
Share on Google Plus

About Unknown

This is a short description in the author block about the author. You edit it by entering text in the "Biographical Info" field in the user admin panel.
    Blogger Comment
    Facebook Comment

1 التعليقات:

  1. Superb blog! Do you have any helpful hints for aspiring writers?
    I'm planning to start my own website soon but I'm a little lost on everything.
    Would you recommend starting with a free platform like Wordpress or go for
    a paid option? There are so many choices out there
    that I'm totally confused .. Any suggestions? Kudos!
    Feel free to visit my web page - GFI Norte

    ردحذف

أضف تعليق