الارتباك الشديد الذي طبع الموقفين الأميركي و الإسرائيلي منذ اندلاع الثورة الشعبية في مصر تصاعدت وتائره مع انتشار الغليان في الشارع العربي ، بعد امتداد حركات الثورة و الاحتجاج و هو يتكرس بتقديرات و أفكار متناقضة تشغل دوائر التفكير الاستراتيجي في واشنطن و تل أبيب على السواء ، و لا يتصل ذلك فحسب بعنصر المفاجأة و بحساسية الظروف التي تحيط بالمصالح الأميركية و الصهيونية في المنطقة ، بل إنه نابع أيضا من كون الإمبراطورية الأميركية ما تزال أسيرة هزائمها و تراوح في محاولات متعثرة لاحتواء فشلها التاريخي و الخسائر التي انتهت إليها حروبها و حروب إسرائيل في الشرق العربي الذي يشهد تشكل بيئة جديدة تنطلق مة فكرة التحرر و الاستقلال و رفض الهيمنة و الاحتلال في ظل نشوء كتلة مقاومة كالت العديد من الضربات الموجعة للمشروع الاستعماري الأميركي الإسرائيلي خلال السنوات الماضية.
يستعصي على القادة في واشنطن و تل أبيب اعتماد وصفة واحدة إزاء ما يجري و حيث يمكن لكل موقف سياسي و عملي اتجاه الأحداث في بلد عربي معين ان يترك تأثيرات عكسية قد تزيد الأمور صعوبة و تعقيدا في التعامل مع أوضاع بلد آخر بينما تستمر ثنائية الأمن الإسرائيلي و النفط هي العصب الحاكم لصياغة الخيارات التي يأسرها انتظار قد لا يطول خشية فقدان القدرة على المبادرة و التأثير بصورة شبه كلية .
أولا نظر كثيرون إلى الثورات العربية على انها تعبير عن مشيئة أميركية خفية بعد استهلاك قدرات الانظمة التابعة التي فقدت أهليتها في خدمة مصالح الولايات المتحدة ، و هم استندوا في ذلك إلى ان التغييرات السياسية التي جرت في مصر و تونس ظلت في حدود القشرة السياسية لشكل الحكم بتنحية مبارك و بن علي و عدد من رموز حكمهما و في ظل العلاقات الوثيقة المستمرة بين البنتاغون و قادة جيشي البلدين و حيث بدا التنسيق متينا و متواصلا بين القيادة العسكرية المصرية و الإسرائيليين و بعدما أكد جنرالات المجلس العسكري في القاهرة على التمسك باتفاقية كمب ديفيد و بالتنسيق الأمني المترتب عليها جهارا ، على الرغم من صيحات فك الحصار عن غزة التي تعالت في ميدان التحرير ، بينما اتجهت الإدارة الأميركية بوضوح نحو التدخل العسكري في ليبيا التي باتت في أتون حرب داخلية و في حين تدرس في دوائر القرار الغربية احتمالات احتلال منابع النفط .
ثانيا اظهرت الولايات المتحدة و إسرائيل في بداية الأحداث العاصفة تمسكا قويا بدعم الأنظمة التي هزتها الثورات و خلخلتها و عندما فرض الشعب رحيل بن علي و مبارك و تقليص سيطرة القذافي شرع الأميركيون مباشرة في تثبيت دعائم نفوذهم داخل الواقع الجديد من خلال بقايا الأنظمة و تحركوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه و هو ما تجسد في رعاية الأشكال الانتقالية للسلطة و التعامل معها لترجيح كفة القوى المحافظة المستمرة من خلال المكونات العسكرية و الحزبية التقليدية المرتبطة بالنفوذ الغربي.
و إذا كانت الحركات الشعبية لا تمتلك برنامجا او مشروعا متبلورا ، مما يفرض مسارات متعرجة للأحداث و يقود نحو مساومات و انماط من المساكنة مع القوى القديمة فإن ذلك لا يعني أن ما جرى كان ترجمة لقرار أميركي ففي ذلك التفسير الكثير من التسطيح و التعلق الأعمى بنظرية المؤامرة ، بل إنه يعني بالمنظور التاريخي ان الثورة التي نضجت شروطها لم تبلور مشروعا سياسيا بديلا للسلطة ، و هي لذلك توصف بأنها معلقة و مهددة بالاحتواء و المصادرة و بمخاطر الارتداد ، و يظهر من النموذجين المصري و التونسي ان ذلك التبلور سيكون في عهدة المجابهة التي تخوضها القوى الفتية و الصاعدة مع التحديات الجديدة و في سياق من الصراع السياسي الاجتماعي الذي سوف يستغرق زمنا غير قليل و تضحيات جزيلة كما يتبين بالتجربة و هذا هو القانون الذي تقودنا إليه مسيرة التطورات .
ثالثا إن تحييد الجيشين المصري و التونسي خلال التحركات الشعبية كان وصفة أميركية أصلا و كذلك النصح الذي قدمه الأميركيون بالسعي لافتداء التغييرات الجذرية عبر قبول الجنرالات بإشراك القوى السياسية التقليدية المعارضة لمحاصرة القوى الحية الجديدة و عزلها بل و اختبار قمعها إن امكن ذلك .
من الملاحظ بالفعل أن كل خطوة قطعها التغيير السياسي كانت إثر مواجهات دامية خاضها المتظاهرون الشباب المصمون على التغيير الأبعد مدى و هذا ما أفضى لإقالة حكومتي الغنوشي و شفيق بينما في ليبيا و بعد الدعم الغربي الصريح للقذافي و التغاضي المفضوح عن المذابح التي ارتكبها و تحت ضغط الرأي العام الغربي اضطرت حكومة الولايات المتحدة لاتخاذ مواقف و تدابير تسعى بواسطتها للتدخل المباشر في ليبيا و حيث يسود انقسام في مواقع صنع القرار بين خياري اعتماد النموذج السوداني في رعاية التقسيم و تكوين ظروف تتيح السيطرة على النفط و التحكم بضفتي الصراع أو النموذج العراقي عبر الاحتلال المباشر لمنابع النفط و تغذية الحرب الأهلية في بلد منقسم و شاسع المساحة .
رابعا الهم الإسرائيلي يتركز محوريا على منع تطور التغييرات السياسية العربية من الاندفاع نحو حالة جديدة تضع فلسطين في صلب التزامات الحكومات الجديدة التي يبدو أن مخاضها المتدحرج سوف يطول و يعول الإسرائيليون في الحالة المصرية خصوصا على ان تستنزف طاقة الثورة في الهموم الداخلية الاقتصادية و السياسية و الأمنية لفترة كافية لاسترجاع إسرائيل زمام المبادرة على صعيد المنطقة فإسرائيل التي أقامت روابط تعاون متعددة المستويات مع انظمة ما سمي بالاعتدال العربي و عولت على تقدم منطق التسويات و التطبيع لمحاصرة حركات المقاومة تركز اهتمامها على خطر تفتح عروبة جديدة مناضلة خصوصا في مصر لأن ذلك سينذر بانقلاب استراتيجي خطير على صعيد ميزان القوى في المنطقة و الصراع العربي الإسرائيلي خصوصا .
خامسا تشغل التداعيات المحققة في الأردن و السعودية و العراق مركز الاهتمام الأميركي الإسرائيلي على السواء و سوف يتركز القسط الرئيسي و الحاسم من جهود الولايات المتحدة و إسرائيل على هذه البلدان العربية الثلاث لمنع إفلاتها من قبضة النفوذ الغربي بأي ثمن .
فالتحركات الشعبية في الأردن تقودها قوى سياسية معارضة مساندة لخيار المقاومة في الصراع ضد الاحتلال الصهيوني و هي رفعت شعار إسقاط اتفاقية وادي عربة بينما تجمع التظاهرات العراقية الحاشدة بين شعاري مقاومة الاحتلال الأميركي و تغيير الحكم الذي انبثق و تشكل في ظله ، في حين يعتبر الأميركيون و الإسرائيليون ان المملكة السعودية هي آخر ما تبقى من معاقل ما يسمى بالاعتدال العربي .
لهذا السبب صدر الضوء الأحمر لملك البحرين بوقف حمامات الدم في ساحة اللؤلؤة ، و طالبه الأميركيون بعرض التفاوض على المعارضة ، و ساد الارتباك و الخرس السياسي في واشنطن إزاء المسيرات العراقية الحاشدة التي ختمت الكثير من صدوع الانقسامات الطائفية و المذهبية التي انتجها الاحتلال و تحصن بها ، بينما يسعى الأميركيون جاهدين للجم الحريق الثوري في اليمن حيث تتواجد قواتهم مباشرة ، و يدرك الإسرائيليون خصوصا ان اجتياح حمى التغيير لهذه الساحات الثلاث سيعني التعجيل بقيام وضع نوعي جديد على خط الصراع حول فلسطين و في المنطقة عموما فالقوة المحافظة السعودية كانت دوما داعمة و مساندة لمنطق الاتفاقيات المنفردة منذ اتفاقية كمب ديفيد و هي تولت قيادة الحملة المعادية لقوى المقاومة اللبنانية و الفلسطينية و خاضت في الركاب الأميركي صراعا شرسا ضد سورية و إيران ، بينما يتركز الجهد الإسرائيلي الاستراتيجي منذ عام 1948 على منع تحول العراق إلى قوة مساندة او مشاركة للجبهة السورية فيما الأردن سيبقى بيت قصيد صهيوني لاعتبارات عديدة أقلها الجوار الجغرافي و التشابك السكاني مع الضفة الغربية المحتلة و أعزها مشروع الوطن البديل القديم الجديد الذي لا يبرح العقل الإسرائيلي .
تجربة الثورة المصرية أظهرت صعوبة الاحتواء الأميركي و هي تبشر بتدحرج الصيغ السياسية المزدوجة للسلطة الجديدة بينما انتقال العدوى إلى السعودية يبين استحالة إقامة السدود في وجه التحولات الحاصلة على صعيد الوعي و المزاج الشعبيين و لذلك فإن التخطيط خلال الأشهر القليلة المقبلة لشن حرب إسرائيلية ضارية و مدمرة على سورية و لبنان و غزة ، و التصعيد في استهداف سورية و إيران بشتى الوسائل يبدو هو الطريق المرجح لمحاولة لجم الانهيارات المتمادية في منظومة السيطرة الاستعمارية التي عمرت أربعين عاما و ظلت قادرة على إحياء مشاريعها رغم ما لحق بها من خسائر منذ الثورة الإيرانية حتى رحيل حسني مبارك عن الرئاسة المصرية .
غالب قنديل
0 التعليقات:
إرسال تعليق
أضف تعليق